يستضيف المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، في عمّان، معرضًا فوتوغرافيًا بعنوان “أسمع أميركا تغني”، لمجموعة من الفنانيين/الفنانات الأمريكيين/الأمريكيات. وتنطلق مقولة المعرض الأساسية من تساؤل “ماهي أمريكا؟”، في محاولة لجعل النص البصري الفوتوغرافي في المعرض محاولةً للبحث في التساؤل أعلاه، متوسلين بذلك عدة أدوات فنية والأهم نقدية لذلك الهدف.

لعل التساؤل أعلاه، عن “ماهية” أمريكا، في مساحة قاعة المعرض، في المتحف، يخبرنا أن موقع التلقي لهذا السؤال في السياق العربي، الحالي، هو جزء أيضًا من العمل الفني ومقولته. فسؤال زائر المعرض لو كان قد أقيم في السويد مثلًا، سيختلف من حيث موقعه ومساره وذاكرته عن سؤال زائر المعرض في عمان. ومن هنا نرى أن موقع تلقي السؤال/العمل الفني هو جزء أيضًا منه.

وعليه، يمكننا أن نصيغ تساؤلنا النقدي كالتالي: ماذا يرى الناظر إلى تلك الأعمال الفوتوغرافية عن “ماهي أمريكا؟” في قاعة المتحف الوطني الأردني؟

يحيلنا هذا التساؤل البدئي إلى أولى المفاهيم التي سنوظفها في هذا السياق بهدف تحليل النص البصري الفوتوغرافي (وليس المضمون البصري، بما هو النص شبكة علاقات)، وهو مفهوم التحديقة Gaze، الذي ساد في الدراسات السينمائية والبصريةـ بارتباطه بمقولة العين والنظر. ويعود المفهوم إلى المنظر النفسي الفرنسي جاك لاكان، الذي جدد نظريات فرويد حول الليبدو، وأسس لمفهوم التحديقة بما هو مرتبط بتكون الأنا والآخر، ومن هنا نفهم ارتباطه بالدراسات الثقافية ومابعد الاستعمارية والنقد النسوي. والتحديق يدفع بـ”اجتماعية” ما للإنسان وقيام مجتمع مدني، كما يخبرنا جان جاك روسو، فهو -التحديق يرسم حدود الذات، وعليه فإننا بقدر ما نسأل ما هي أمريكا، نحن نتسائل أيضًا من الذي يسأل عن أمريكا وهل هي أمريكا التي في النص البصري أمام العين المحدقة؟

يقول لاكان أن “النظر مشحون بقصد”، ويضيف “لا يمكنك النظر إليَّ من الموقع الذي أراك منه”. هنا تبدأ اللعبة الإدراكية، بين الناظر والمنظور إليه، وهنا تبدأ المقولة الأساسية لهذا المعرض بتفكيك الموقعين معًا: الناظر والمنظور إليه.

“ما هي أمريكا؟”هي غنائية للشاعر الأمريكي والت ويتمان في القرن التاسع عشر، صيغت قبل الحرب الأهلية الأمريكية مباشرة، والآن ننظر إليه بعيون مصورين فوتوغرافيين أمريكيين، قاموا بتفكيك تلك السردية الأمريكية، التي مرت بمراحل مختلفة منذ تلك الحرب الأهلية، وبالذات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وبداية الترويج “للحلم الأمريكي” في مرحلتين؛ الأولى مرحلة بوتقة الإنصهار، حيث “الحلم الأمريكي” الجامع (“أرض الأحلام” فيلم مصري أنتج عام 1993، بطولة فاتن حمامة ويحيي الفخراني، يتحدث عن حلم الهجرة إلى أمريكا)، في بلاد الحرية والفرص المفتوحة، وهي مرحلة لم تدم كثيرًا، لتأتي بعدها مرحلة “طبق السلطة”، حيث يتكون المجتمع الأمريكي بفرادته من مكونات لا تختلط ببعضها تمامًا، كما كان الحال في بوتقة الانصهار، فيضل المكسيكي مكسيكي، والهندي هندي والعربي عربيًا، لكنهم معًا ودون اندماج تام هم مثل طبق السلطة، الذي يتميز مذاقه باستقلالية مكوناته دون اختلاطها بغيره.

ما يقدمه المعرض هو قراءة لهوية “أمريكا” من خلال حركتين أو اتجاهين أساسيين يتحرك عليهما السؤال “ماهي أمريكا؟”، والحركة هنا هي مصدر من مصادر المعرفة النقدية، وهي أيضًا ثاني المفاهيم التي نحلل من خلالها النص البصري في هذا المعرض.

صحيح أن الأعمال الفوتوغرافية في المعرض انقسمت إلى ثلاثة أشكال بصرية رئيسية: بورتريه، وتاريخ أمريكي، ومناظر طبيعية، إلا أنه وباستدعاء مفهومنا أعلاه عن التحديقة، نجد أننا كناظرين نشتبك مع بنية النص البصري في الصور الفوتوغرافية ضمن حركة اتجاهات، وهي:

    1. اتجاه رأسي/عامودي، نجد عليه أنفسنا كناظرين من على محور رأسي ضمن/في الصورة، وهنا نجد أعمال أليكس ماكلين (صورة 1) وميلي تيبس( صورة 2و3و4.

صورة 1: أليكس ماكلين

 

ميلي تيبس 2 ميلي تيبس 3 ميلي تيبس 4

صورة 2،3،4: أعمال ميلي تيبس

 

  1. محور أفقي، نقع فيه كناظرين على الطرف الافقي (تقريبًا) المقابل لمضمون الصورة، ومن تلك الأعمال ويليام ويلسن (صورة 5،6) ووندل وايت (صور،7،8،9) و جرايسيلد ا سان مارتن (الصورة 10،11)، مرسيديس دورامي وباميلا بيتشيو وخافييرا سيمونز ووين هانج لين.

 

صورة 5،6: ويليام ويلسون

 

 


الصورة 7،8،9: ويندل وايت

 


الصورة 10،11: جرايسيلد ا سان مارتن

 

كل حركة ضمن منظومة العلاقات الحيزية والاتجاهية والمكانية في النوعين السابقين تنتج شكلًا من أشكال التلقي والحفر في سؤال “ماهي أميركا؟”

 

أولًا الحركة/الاتجاه الرأسي:

النظر من أعلى يفترض قوة ما في ذلك الموقع، فلطالما كانت الرؤية من أعلى لها قيمة “أسطورية”، بحكم أنها تحاول الانفصال عن عوارض الزمن والأحداث الفاعلة في المكان. فالإرتفاع يتيح للناظر “قراءة العالم أمامه وأن يصبح عينًا شمسية أو نظرة إلهية” (أرسطو)، والنظرة العلوية تلك هي نظرة إجمالية شاملة، لكن الأهم أنها أيضًا استبدادية تعصف بالاختلافات  والخصوصيات والقصص والتنوع والمسارات. هي نظرة مأخوذة باستراتيجيات السيطرة. يتضح الأمر جليًا باستدعاء مجازي لإيكاروس في الأسطورة اليونانية، والذي أغوته السيطرة على المكان من علٍ حتى أحرقته الشمس، في مقابل والده المعماري ديدالوس الذي بقي أرضًا. لاشك أن البعد اللاهوتي الرأسي، كان لو وزن ثقيل في التصورات الهندسية المعمارية، وهو مايتضح في الصورة (1)، لأليكس ماكلين، المعروضة في المتحف، والتي نرى درجات الهيمنة المعمارية التنميطية على المكان، وهو ما يتجلى واضحًا في أعمال ماكلين الفوتوغرافية. إلا أن هذه النظرة المهيمنة، أو العين الحلولية، نجد تمثلاتها على نص بصري آخر، هو المنمنمات في العصر الوسيط، حيث أن كل مكان في النص البصري، ينعكس على العين الرأسية الرائية، وهو أمر يمكن تتبع تداعياته في تاريخ العمارة الرأسية (مآذن المساجد والمعابد، وكذلك معمارية الرأسمالية الصرحية، وغيرها نماذجًا)

في نموذج فوتوغرافي رأسي/عامودي آخر من المعرض، نجد أعمال ميلي تيبس (الصورة 2،3،4)، التي تواجه السلطة المكانية العلوية في النظر  من أعلى، من خلال توظيف عنصر آخر وهو الخطوط، أو كما تقول وثائق المعرض فإن تيبس تنتقد هذا النوع من التصوير الفوتوغرافي “للمناظر الطبيعية من خلال التلاعب الجسدي بعملها باستخدام الأوريغامي”. وتلك طريقتها في تكسير النظرة المهيمنة من أعلى، والتي هي في أساسها نظرة أيديولوجية، ترصد الظواهر من أعلاها وخارجها. لكن تيبس تطرح منظومة هيمنة أخرى بديلة، وهي الخطوط المنتظمة، الهندسية، أي أنها تبدل منظومة هيمنة بأخرى، بل وتنشبك معها. فكل الخطوط التي أنتجتها الأورغامي، أو تلك التقسيمات الهندسية في أعمال تيبس الأخرى، تهدف إلى استيعاب المكان واحتواءه ضمن مساحات هندسة، وهذا يذكرنا بالهوس الحداثي التاريخي بالخرائط، كمنتج بصري مكاني.

 

ثانيًا الحركة/الاتجاه الأفقي:

قبل أن نبدأ في تتبع هذا الخيط/الخط الأفقي في تجاه التحديق في بعض الأعمال الفنية في المعرض، نشير إلى ظاهرة أساسية في النقد الأدبي يمكننا تتبع ظلالها في هذا المعرض. في المادة التعريفية بالمعرض والأعمال الفوتوغرافية، وفي مفتتحها يرد التالي:

“ما هي أمريكا؟ بالنسبة للشاعر العظيم والت ويتمان في القرن التاسع عشر، كانت أمريكا عبارة عن مجموع أفرادها العاملين لبنائها بتناغم… أشاد شعره بالمثل الديموقراطية لإعلان الاستقلال الأمريكي، والمساواة الطبيعية بين جميع البشر”، وفي موضع آخر من نفس المادة، يرد ذكر شاعر أمريكي آخر لانغستون هيوز، وقصيدته الأولى “التي كتبها عام 1925، عن التمييز الذي واجهه الأمريكيون من أصول افريقية”. يذكرنا هذا الاستدعاء لهذين الشاعرين والمسافة التاريخية بينهما، بمفهوم “قلق التأثير” The Anxiety of Influence، والتي كانت عنوانًا لكتاب أصدره الناقد الأمريكي الشهير هارولد بلوم عام 1973، قدم فيه تلك النظرية القائمة على عقدة أوديب التي سبق لفرويد أن أسهب في تحليلها وتوظيفها. وملخص نظرية بلوم هو أن كل شاعر انجليزي أو أمريكي، منذ ظهور الشاعر الانجليزي ميلتون في القرن السابع عشر، يعاني من قلق ناشئ عن كونه تالٍ زمنيًا لشعراء سابقين له، قلق شبيه بعقدة أوديب في علاقته بأبيه. وتلك الصلة بين الشاعر اللاحق والسابق فتتم عبر قصيدة أم، أو مجموعة قصائد للشاعر السابق – الذي يمثل دور الاب- تولد لدى الشاعر الابن أحاسيس يمتزج فيها الحب والاعجاب بالحسد والخوف وربما الكراهية أيضًا.

باستعارة منطق القلق الذي أشار إليه بلوم، يمكننا تتبع مخزون القلق في الأعمال الفوتوغرافية في معرض “ماهي أمريكا؟”، من خلال “الاستجواب الحاد للهوية الامريكية، وأيديولوجيتها”، ورصد أشكال للتوتر والقلق ليس فقط بين الحضارة والطبيعة، كما تخبرنا الأوراق التعريفية بالمعرض، لكن كذلك على مستوى المونولوج الهوياتي الأمريكي.

ولنتأمل أولى النماذج التي نرى أنها تجسد “قلق التأثير”، لكن في وجه مقولات حداثية أساسية، وهي مقولة الدولة الحديثة، التي تنصب نفسها إجابة وشكل أوحد لسؤال الهوية. مجموعة الصور بعنوان “الحريات الأربعة” لجماعة فنية تطلق على نفسها اسم “فور فريدومز” اي من اجل الحريات (هانك ويليس توماس وإيميلي شور بالتعاون مع إريك غوتسمان وجاليري وايت للحريات)، (صورة 12)، هي تحوير بالنقد الهدام على عمل فني سابق لها بنفس العنوان لنرومان روكويل، احتفاءً بالديموقراطية الأمريكية عام 1943، في مواجهة انتشار الفاشية في أوروبا (صورة 13) لتجسد الحريات الأربعة التي أعلنها الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ، في خطابه الشهير عام 1941.

تصف مقالة التايمز (12 أكتوبر/تشرين أول 2018) أن “الحريات الأربعة” لجماعة الفنانين “فور فريدومز” إنما تستدعي من تناستهم حريات روكويل البيضاء، أو كما تقول الجماعة الفنية نفسها: “في ذلك الوقت في أمريكا، يبدو أن ما يعنيه أن تكون أمريكيًا كان أن تكون أبيضًا كأنغلو – ساكسوني”.

 

صورة 12: الحريات الاربعة للجماعة الفنية “فور فريدمز” (هانك ويليس توماس وإيميلي شور بالتعاون مع إريك غوتسمان وجاليري وايت للحريات)

 

صورة 13: الحريات الأربعة لنورمان روكويل -1943

 

من طمستهم حريات روكويل الأربعة، هم من أعادتهم حريات جماعة الفنانين “فور فريدومز”، لكن الطمس والإظهار هي سمة أساسية في مجتمع انبنى على ارث استعماري وكولونيالي بالأساس، وبدا أنه منذ أواخر القرن الماضي افتتح “كولونيالية متأخرة” (إدوارد سعيد).

تعيدنا فكرة الطمس والإظهار في مبناها الأفقي، إلى سياسات الذاكرة المكانية/المدينية، ,تجسدها بوضوح صور ويندل وايت (الصور 7،8،9)، يستعيد ويندل النص غير المحكي من المدينة الأمريكية، التي قامت باعتبارها نصًا على سياسات الذاكرة والنسيان، وكذلك الطمس والإظهار، أو المحكي والمسكوت عنه. وايت المباني في الولايات الشمالية الشرقية مثل نيوجيرسي التي كانت في السابق مدارس منفصلة عرقيًا، ليعيد لسكان تلك المدينة أجزءًا مطموسة من نص مدينتهم أثناء يومهم الاعتيادي. ولنتخيل فعل المشي نموذجًا لممارسة مدينية.

يقترح الفيلسوف الفرنسي ميشيل دو سارتو أن المشي في المدينة بمثابة كتابة بالأقدام، ولكنها مجازية وعفوية وتكتيكية، لا تترك أثرًا بيِّنًا كما هو شأن الكتابة بالحبر على الورق. يمكننا هنا مقاربة الكتابة بالحبر بالعمارة والعمران المديني، فالبنيان والعمارة كما الكتابة هما النص البصري المادي الملموس للسرد المديني. وما يقدمه ويندل هو ببساطة كتابة تخيلية مغايرة للنص المديني، يمكن مقاربته خلال اليومي المعاش لسكان المدينة، كي لا ينسوا من سبقوهم من ضحايا الفصل العنصري.

تلقي أعمال وايت بظلالها على نماذج معمارية ومدينية أخرى قامت على الطمس والإزالة، بغية التركيز على معالم ذاكراتية للحيز المديني، باعتبارها هي الذاكرة الأقوى، يحدث الأمر ذاته في كل المدن الفلسطينية، بأنماط وأشكال مختلفة.

ثمة حركة أفقية أخرى توضح لنا “ما هي أمريكا؟”، من خلال ماهو خارج الحركة والجسم المتحرك، وهو الحدّ. يتضح الأمر جليًا في أعمال جرايسيلد ا سان مارتن (الصورة 10،11) من الحدود بين أمريكا والمكسيك، وتذكرنا تلك الصور بشعار حملة الرئيس الأمريكي السابق الانتخابية: “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى! فلنبنِ أسواراً”؛ ويقصد أسواراً تفصل بين الشعب كذات جوهرانية عظيمة، وآخر غريب (ليس) عظيماً، من دون التأمل التاريخي ولا السياسي في بنية الشعب، كمقولة، ولا الآخر كمقولة يفترض أن تكون مقابلة. ومن هنا يمكن تأمل سياسات الحدود والمكان في أعمال سان مارتن كتمثيل مكاني/مادي لعلاقة القوى على مستوى اللغة والمكان والإدراك، وعليه فإن تفكيك تلك العلاقة المكانية/الجسدية/العمرانية هو شكل أساسي من أشكال مقاومة هذا الخطاب النمطي عما هي أمريكا؟، وتلك هي اللعبة البصرية اللونية الأساسية في أعمال سان مارتن الفوتوغرافية. لعلها تود الإحالة لقول مارتن هايدغر: “ليس الحدّ ما يتوقف عنده شيءٌ ما، الحدُّ كما أدرك الإغريق ما يبدأ شيءٌ ما حضوره”.
وإذ ثمة قرابة مطموسة بين المكان والأبجدية؛ فإن سياسات المكان الحدودي الذي أطلعتنا عليه سام مارتن، لا تنحصر بين الشعار (السياسي) كلغة، والحدّ – السور- كمكان (لغوي)، بل تمتد إلى خارج تلك المعادلة لترسم شكلاً إدراكياً للذات والآخر أمريكيًا، والمكان الذي يجمعهما، ولو أضداداً، وتستند بالأساس على فكرة الحد، وما تستبطنه من فلسفة التعريف بالسلب: (إذا كان الآخر آخر، فأنا أنا)، التي ينتجها الحد ويديمها.

في ارتحالنا البصري الأفقي/الاتجاهي، كناظرين إلى الأعمال الفنية يتوقف بصرنا أمام أعمال فوتغرافية تستعيد أشكالًا تعبيرية من تاريخنا البشري المشترك، لكنه أيضًا مطموس. تلك هي أعمال خافييرا سيمونز (الصورة 14،15، أدناه)، وفيها تستدعي مسرحة سارة بارتمان التي قتلتها وشوهتها وانتهكتها التحديقة العنصرية الغربية لمدة تزيد عن القرن والنصف، شاركت فيها كل ديناميات الحداثة العنصرية من الطب إلى الترفيه إلى البيولوجيا، فبعد أن كانت ضمن تجارة الرقيق الهولندية، أصبحت مادة ترفيهية في سيرك الحيوانات المفترسة، وكذلك مادة لتجارة الجنس، ومن ثم مادة للتشريح الطبي بحجة أنها كائن أدنى، حتى أن رفاتها عادت من متحف التاريخ الطبيعي الفرنسي إلى قريتها في القارة السمراء بعد قضية دولية رفعها الراحل نيلسون مانديلا وربحها عام 2003.

ما فعلته سيمونز أنها استعارت مسرحة بارتمان بطريقة أعطتها كولاج فني مركب من عدة طبقات، أولًا، ويعتمد على تباين دراماتيكي بين القديم والجديد، والملون والأبيض والأسود، إلا أن طمس الوجه، يجعل من سؤال الهوية الفردية مركزية هنا، دون تغييبها، فالعنصرية بقدر ما هي جمعية تجاه عرقٍ ما، هي أيضًا فردية لأننا نخوضها بذواتنا. هذا التركيب والكولاج مابعد الحداثي، يضمن لها جزءًا من حق الرد على الناظرين إليها في السياق الأمريكي، فالفتاة في الكولاج الفوتوغرافي لها تاريخ، وهي أيضًا تحدق في الناظر إليها من خلال سردية ساهمت في تكوين أمريكا كما هي.

 

 

الصورة 14،15: خافييرا سيمونز

 

في العلاقة مع الفوتوغرافيا علينا أن نشير على الدوام أن الفوتوغرافيا هي سلطة، فهي تجمد المكان والزمان معًا، وتعطينا مفهومًا سلطويًا يمتد من مركزية العين إلى الكاميرا، في علاقتنا بأمكنتنا، حتى المنظرة الأمريكية سوزان سونتاغ تقول أن اختراع الطباعة ليس أكثر أهمية في التاريخ البشري من اختراع الكاميرا.

تتلاعب مرسيدس دورامي في أعمالها بمفهوم الذاكرة المكانية، فتضفي طبقات من المعاني على الأمكنة، وتستدعي رمزية اللون الأبيض والأسود النوسطالجية، على أماكن ما بعينها. وكانها تعطي الوجود الزمني لتلك الأمكنة ، الخاص منها والعام معنى زمنيًا آخر (الصورة 16،17)

 

الصورة 16، 17: مرسيدس دورامي

 

ما تفعله دورامي، أنها تمنح الأشياء البسيطة والصغيرة معانٍ أخرى، وعلاقات مغايرة بربطها فوتوغرافيًا بأناس آخرين،  فكأن كتاب “تاريخ الشعب الانجليزي” بالنسبة لـ”ماهي أمريكا؟” البيضاء، في الصورة 17، قد احتوى سردًا مكتومًا لإحداهن لا نعلم من هي، لكننا نرى آثارها بواسطة طبقة فوتوغرافية بصرية جديدة.

تتهدد بهذا الفعل سرديات هوياتية كبرى، كالتاريخ والدولة، ما يذكرنا بإضاءات الفيلسوف الفرنسي، فرانسوا ليوتار، في كتابه “حالة ما بعد الحداثة” (1979) عن السرديات الكبرى، يقصد بها التفسير السردي الذي يدّعي لنفسه مركزية متجاوزة للتاريخ، افتراضات تفسيرات للظواهر التي نعايشها، لا تقبل أي شكل من أشكال المعارف خارجها. كالرأسمالية والماركسية، وغيرها من سرديات كبرى تدّعي قدرة متجاوزة على تفسير الوجود الإنساني، والأهم أن تلك السرديات الكبرى لا تلقي بالًا، ولا تهتم بكتاب في مكتبتنا أو وسادة على أسرتنا.
في مقابل كل ذلك، يطرح ليوتار مفهومًا للسرديات الصغرى، أو السرديات المضادة، بوصفه بديلًا نظريًا ومعرفيًا مقابلًا للسرديات الكبرى؛ وهي خطاباتٌ تتشكل من جماعات ما بعينها، بحسب موقفها من ظاهرة وجودية ما؛ كالدولة والهوية.
تقول إيلا شوحط: “لا بد أن نطرح السؤال التالي في زمن تكررت فيه السرديات الكبرى للغرب مرارًا وتكرارًا، وإلى ما لا نهاية، عندما يتحدث ما بعد حداثي موثوق (وتعني ليوتار) عن “نهاية” السرديات الكبرى، وعندما يتحدث فرانسيس فوكوياما عن “نهاية التاريخ”: سردية مَن بالضبط، وتاريخ مَن على وجه التحديد ذلك الذي يعلنون نهايته؟ من الواضح أن أوروبا المهيمنة بدأت تستنفد الذخيرة الاستراتيجية من القصص، لكن شعوب العالم الثالث، ومجتمعات الشتات الأولى، والمرأة والمثليين/ المثليّات، بدأوا للتو في سرد قصصهم وتفكيكها”.
يبدو، إذن، أن أشياءنا الصغيرة باتت تصارع معنا هي أيضًا ضد تلك السرديات الكبرى، وتتخذ لنفسها موقعًا، وإن انفصل عنّا، إلا أنه يجعلها بؤرة سردية لنا، و/أو علينا بشكلٍ ما أو بآخر، ولها قصة تخصها.

في مشهد من مشاهد انهيار السرديات الكبرى، نستطيع أن نستدعي طقس تفكيك الرموز الذي قامت به باميلا بيتشيو في صورها الفوتوغرافية للآباء المؤسسين، التي تستدعي فيها رموز الدولة والتاريخ الأمريكي، مفككة إياهم، كصورة لتمثال محطم، أو طقم أسنان سفلي مهمل، لأب مؤسس. ما يذكرنا بالمطالبات الأمريكية بإزالة النصب التذكارية لكولومبوس وغيره من رموز الدولة والتاريخ الأمريكيين.

بينما يستحضر ويليام ويلسون في صوره الفوتوغرافية (صورة 5،6) الإرث المطموس من الدموية الأمريكية، تجاه شعوب أمريكا الأصلانيين ممن أسموهم “الهنود الحمر”. مستخدمًا في ذلك تقنية جديدة دمجت الحركة (الفيلم) والسكون (الصورة) في الفوتوغرافيا، فإن الأمر يشبه محاولات الفوتوغرافي الشهير جاك هنري لارتيج، الذي دمج الحركة مع السكون في صوره الفوتوغرافية، وما أسست عليه المنظرة والناقدة سفيتلانا بويم في كتابها عن النوسطالجيا والحداثة،وكيف أن الحداثة تعاني مشكلة رئيسية مع النسيان. فالحركة التي يرصدها ويلسون تراكم دفعًا على محور الذاكرة والنسيان، يعيد للذاكرة الوطنية الأمريكية ما حاولت نسيانه، فكأي أمة حديثة تبدأ سياسات الذاكرة والنسيان تشكيل الذاكرة الوطنية، وبالذات بعد الأحداث التاريخية الكبيرة، كما حدث في روسيا مع الإرث الستاليني، وفي أوروبا مع إرث الحراكات النازية والفاشية.

نتذكر هنا دعوة ماكسين هونغ كينجستون لإعادة تأهيل الذاكرة الأمريكية الجمعية من خلال استعادة إرث السكان الاصلانيين لتلك البلاد ضمن زمنية الدولة الرسمية، التي تتعامل مع عناصر هويتها بدرجات مختلفة من الطمس والتغييب، فمثلًا، نقول أن السود في أمريكا مهمشون، وأما “الهنود الحمر” فمنسيون منذ لحظة نطق الإسم المتحيّز، فمن أوصل أوباما إلى أرفع منصب في البلاد ليس أن الولايات المتحدة تخلت عن إرثها الابيض العنصري، لكنها استدعته بقناع أسود كما يصف الأمر نعوم تشومسكي، لكن في حالة “الهنود الحمر”، لا يعدو الأمر في تذكرهم تسمية أدوات الكولونيالية الأمريكية المتأخرة بأسماء قادتهم ورموزهم، كمروحيّة الأباتشي مثلًا!.

هذا الشكل التفاوضي مع التاريخ، أو المونولوغ الذاتي الداخلي مع الهوية إلى أين سيصل مالم تكن الهوية على الدوام إرتحال وحركة، وهو ما يقدمه التساؤل: “ما هي أمريكا؟”، حين تغني!

_____________________________________
تُنشر المادة بالشراكة مع موقع ضفة ثالثة – العربي الجديد، بعنوان:
“أسمع أمريكا تغني” معرض فوتوغرافي معاصر عمّا هي أمريكا