“من دُق له رقص” مثلٌ شعبي يُطبقه اليمنيون في حياتهم بشكلٍ دائم، ويعني أنه حينما تُعزف إيقاعات الطبول والآلات الموسيقية يجدُ اليمني نفسه راقصًا دون شعور، فاليمنيون يعشقون الرقصَ، ومن أجلِ ذلك لديهم مخزونًا كبيرًا من الرقصات المتنوعة التي تصل إلى أربعمائة رقصة معظمها رقصات تميزهم عن غيرهم من الشعوب العربية.
واليوم مع دخول الحرب التي ما تزال تدور رحاها في اليمن للعام السادس ونزوح ملايين اليمنيين خارج بلادهم، يحرص الكثير من الشباب داخل اليمن الحفاظ على هُويتهم الفنية من خلال تعلمهم للرقصاتِ الشعبية من خلال حضورهم دورات مفتوحة تُـنظَّم بشكل طوعي من قبل مدربين وخبراء وهواه في الرقص الشعبي في مختلف المناطق اليمنية.
ومن بين أولئك المدربين الذين أخذوا على عاتقهم مسألة الحفاظ على التراث في زمن الحرب، خبير الرقص الفنان علي المحمدي(60 عامًا)، الذي تخرَّج على يديه مئات الراقصين الذين يعتبرون الرقص مهنة يعتاشون بها، إضافةً إلى آخرين مهووسون بالرقص كمتعة يومية في مختلف المناسبات.

رقص لحجي
ومن أنواعِ الرقصات اليمنية:
البرع، والسعاني، واللحجي، والزعفين، والركلة، والرزحة، والحناء، ونجيم الصبح، والدحيفة، والشرح الشبواني والبيضاني، والدربوكة، هُنَّ من أهم الرقصات المؤداة عند اليمنيين، وتختلف طريقة وأداء كل رقصة عن الأخرى باختلاف المحافظات والمناطق اليمنية، فالأغنية الصنعانية (نسبة لمدينة صنعاء) لها رقص مختلف عن الأغنية الحضرمية(نسبة لمحافظة حضرموت)، كما أن هناك اختلاف في الرقصات المؤداة بين لحنٍ وآخر، فرقصات الزوامل والمهاجل (فن خاص باليمنيين) تختلف عن رقصات الشيلات (فن يؤدى في اليمن والخليج العربي)، كذلك اختلاف الرقصات يكون بين أغنية وأخرى باختلاف المناسبات بدءًا من الأعياد والمناسبات الدينية، وحفلات الأعراس إلى حفلات استقبال العائدين من السفر والغربة، أو العائدين من تنفيذ مهام قبلية معينة، مرورًا برقصات الفلاحين والصيادين والعاملين في مختلف المهن.
وتؤدى بعض الرقصات باستخدام الأسلحة كالخناجر والسيوف مثل رقصة “البّرع”،ورقصات الشيلات، فيما تؤدى أخرى بالعصي والتراس، مثل رقصة “العِدّة”
وكل تلك الرقصات يتعلمها العديد من الشباب الحريص على حضور التدريبات التي يقيمها معلم الرقص علي المحمدي، في المركز الثقافي بالعاصمة صنعاء بين الفينة والأخرى، كما يقول العشريني محمد مسعود، أحد المتدربين في ذلك المركز.
ويضيف قائلًا:«رغم الظروف المادية القاسية التي نعاني منها،إلا أن الرقص هو الملاذ الذي نلجأ إليه للتخفيف من شظف المعيشة، فأنا أعمل في محل تجاري خلال الفترة المسائية وألتزم بحضور دورات الرقص في فترة النهار».
وتختلف ظروف الشاب المنتمي لمحافظة المحويت عباس الروني(18)عامًا عن ظروف مسعود، إذ أن عباس اتخذ الرقص كهواية ومهنة في ذات الوقت، لذا فإنه يداوم على حضور دورات الرقص.
ويقول عباس: «أرقص منذ أن كنت طفلًا في العاشرة من العمر، لكنني أردت أن أتقن الرقص الصنعاني من خلال حضوري دورات الرقص».
ومثله العشريني صدام التريادي القادم من محافظة إب وسط اليمن، لتعلم الرقص في ذات المكان الذي يحرص المحمدي على استمرار أنشطته مهما كانت الظروف ومنها الحرب التي ما تزال مستعرة، إذ يعتبرُ صدام الرقص أجمل شيء يقوم به في حياته ويشعر بمتعة لا تضاهيها أيَّة متعة وهو يؤدي مختلف أنواع الرقصات.
وتُقَام دورات تعليم الرقص دون مقابل مالي يدفعه الطلاب والهواة، ودون دعم مادي من وزارة الثقافة اليمنية، بل أن مدرب وخبير الرقص علي المحمدي الذي يشغل حاليًا منصب مدير عام الفنون الشعبية وقائد الفرقة الوطنية التابعة لوزارة الثقافة لا يتقاضى مرتباته منذ سنوات أسوة بباقي موظفي المؤسسات الحكومية في اليمن بسبب تداعيات الحرب .

رقصة البرع (علي المحمدي)
نضال فني:
قبل أكثر من أربعينَ عامًا التحق علي المحمدي بفرقة الرقص الشعبية بمدينة عدن جنوبي اليمن، والتي كانت منطلقًا لتأسيس أول فرقة للرقص في اليمن، حينها قدم خبراء من الاتحاد السوفييتي للعمل على تشكيل فرقة شعبية في الجنوب، وتم عمل مسابقة تقدم فيها سبعون شابًا وشابة من مناطق تعز والجنوب اليمني، وعقب التصفيات تم اختيار ثلاثينَ متقدمًا، منهم علي المحمدي الذي غادر عدن باتجاه الإتحاد السوفيتي وبالتحديد مدينتي لينجراد، وسان بطرسبرغ الروسية والتي حصل منها على درجة البكالوريوس ومن ثم الماجستير في رقصات الباليه، في فترة ثمانينيات القرن المنصرم.
عاد المحمدي إلى اليمن وشارك في تأسيس فرقة الرقص الوطنية التي ضمت راقصين وراقصات من مختلف المحافظات الشمالية والجنوبية، ومن الجنسين، واستمر المحمدي في استقطابِ الشباب الراغبين في تعلم الرقص، وكادَ المحمدي أن يظفرَ بافتتاحِ معهد معني بفنون الرقص بتمويل من دولة قطر، وبالفعل تم وضع حجر أساس المشروع عام 2000، لكنه تعثر بعد أن عرقلته جهات سياسية متطرفة ترى أن الرقص ليس من أولويات البناء الثقافي لليمنيين في ذلك الوقت.
وخلال مشواره المهني إضافةً إلى شغفه واهتماماته بالرقصات الشعبية التقليدية، قدم المحمدي العديد من الأعمال الفنية واستعراضات الرقصات التعبيرية المتميزة مثل أوبريت “الوحدة أو الموت”،ورقصة”الشعوبية”,وغيرها من الأعمال التي لا حصر لها.
وأقام المحمدي مئات حفلات الرقص، إضافةً إلى مشاركته مع مغنيين يمنيين أحيوا حفلات تعريفية بالفن والفلكلور اليمني في عدد من الدول العربية،وفي أمريكا وكوبا وبلغاريا وفرنسا واليابان.

رقصة تهامية
منهج للرقص :
في مطلع العام 2017،في خضم الحرب المشتعلة أصدر خبير ومعلم الرقص اليمني علي المحمدي هو ورفيقته الباحثة ياسمين أبو القصب كتاب”الرقصات الشعبية اليمنية”،تناولا فيه 37رقصة شعبية في 15 محافظة بإيقاعاتها وحركاتها وأزيائها، وأشار الكتاب إلى أن محافظة أبين توجد فيها رقصتا” الُدحيف والّرزَحة” فقط بينما في محافظة حضرموت توجد سبع رقصات، وهي” الزِربادي والهبيّش و القطنِي و العِدة وغيل بني يَمين و الغره وبني مغراة”
ومحافظة البيضاء رقصة واحدة ،ومحافظة الحُديدة أربع رقصات هي “الحقفة،و الجلّ،و الفرساني،وعطا”.
كما لفت الكتاب إلى رقصتي”الكوكباني والسيفية” اللتان تشتهرا بهما محافظة المحويت،إضافة إلى تميز محافظة المهرة برقصات ” البرَع الَمهَري و الُبدينة والعُريُ”.
وفي محافظة عدن رقصتا “الليُّوة و الركلة”،ولحج القريبة منها رقصتي” الشّرح و المُركح”،وينتقل الكتاب لمحافظة تعز التي احتوت على ثلاث رقصات هي “الرزين والزبيرية و البَرع الحُجري”.
أما في المناطق اليمنية التي يتواجد فيها البدو،فقد أشار الكتاب لرقصة مأرب،وفي محافظة شبوة القريبة منها،أشار لرقصتي”بير علي ونصاب”.
وفي العاصمة صنعاء أشار الكتاب لـرقصات”البرع والمزمار و الشُّعوبيّة”
واختتم الكتاب عرضه وتوثيقه للرقصات اليمنية في محافظة صعدة الحدودية مع المملكة العربية السعودية والتي تشتهر برقصتي “النسر وسحار”.
وأرخبيل جزر سقطرى التي توجد فيها ثلاث رقصات ،وهي” الّزامل و قلّيل مِزمار و السّيبح”.
ويُعد كتاب “الرقصات الشعبية اليمنية” أهم وأحدث مرجع يمني يوثِّق للرقصات بالشرح والنوتة الموسيقية وبالصور المرفقة ،كما جاء في حديث الناقد جمال حُميد خلال حديثه مع”إطار فني”.

معلم الرقص علي المحمدي
ويعتمد معلم وخبير الرقص اليمني على كتابهِ الأخير كمنهج تعليمي للراقصين، وهو الأمر الذي يؤكده، وتشير له شريكته في تأليف الكتاب،الباحثة ياسمين أبو القصب، خلال حديثها لـ” إطار فني”،إذ أنها تلفت أن كتابها جاء من واقع معاش فالرقص بشكل عام هو تعبير روحاني عن العلاقة الإنسانية بين الفرد ومجتمعه وبين الفرد والوجود،وتقول ياسمين”لقد تفاجئنا من الإقبال الكبير للشباب اليمني من أجل الإطلاع على الكتاب،واستخدامه كوسيلة لتعلم الرقص”.
يشكو علي المحمدي،من عدم وجود مسارح وبنية تحتية لممارسة الرقص والأنشطة الفنية في اليمن،ومن عدم مشاركة رجال المال والأعمال للاستثمار في تأسيس معاهد لتعليم الرقص،وفي حديثه لـ”إطار فني”،يقول المحمدي«أنا مازلت أدرب وأصمم الرقصات وأبحث عن الجديد،لأن الرقص هو تراث شعب ويجب الحفاظ عليه سواء في زمن السلم أو الحرب».
اليمنيون تحف