منذ أقدم العصور برزت الحاجة الإنسانية للاحتماء من المخاطر الطبيعية وغير الطبيعية، فتجلت بلجوء الإنسان إلى الكهوف والمغارات للسكن والاحتماء. ثم أخذت هذه الحاجة تتطور بتطور الإنسان؛ كذلك تغير وتنوع احتياجاته، لينتقل معها مفهوم المسكن أو المأوى لمرحلة جديدة بالشكل ومواد البناء لتناسب احتياجات المرحلة المتطورة هذه؛ خصوصًا مع اعتماد الإنسان فيها على الزراعة والري، مما يتطلب منه الاستقرار والمكوث في الأرض فترة طويلة، لرعاية ومداراة المحاصيل وانتظار وقت حصادها، عندها انتقل من مرحلة السكن في الكهوف والمغارات، وبدأ بتشييد وبناء المساكن والبيوت على الأراضي الواسعة مستخدمًا القصب والبردي أو الأخشاب، ثم الطين والحجر، وصولًا إلى انطلاق الثورة الصناعية وبداية اختراع مادة الإسمنت، والتي أصبحت المادة الأساسية في بناء البيوت والمساكن.

شكل البيت، بعد الانتقال من مرحلة السكن في الكهوف والاستقرار قرب الأراضي الزراعية.
إن التطورات المستمرة التي خلقتها مسارات الحضارة، وسيادة العلم بتقنياته وتكنولوجياته الحديثة، نقلت مفهوم البيت والمسكن من مجرد مكان للاحتماء والاستقرار إلى مساحة للإبداع والتجريب، كاشفةً عن مدى الاستقرار والطمأنينة التي يعيشها الفرد اليوم، مقارنة بإنسان المراحل المبكرة من التاريخ.
بتوصية من صديق أعتز بصداقته وأثمن توصياته، اقترح لي مشاهدة برنامج Home الذي بثته شبكة Apple TV + يتألف البرنامج من حلقات عديدة ومتنوعة، تحكي كل حلقة منه، تجربة فريدة ومميزة لبعض الأشخاص في بناء بيوتهم. الملفت في البرنامج هي طريقة التعاطي مع البيت، أو بعبارة أخرى طريقة التعاطي مع مفهوم البيت، هل البيت عبارة عن جدران قائمة على أرض مستوية، مُقَّطع إلى أجزاء لكل جزء وظيفته المعينة؟ أم أنّه شعور وحالة إحساس خاصة وفريدة يجب استشعارها والإحساس بها قبل المباشرة في التصميم والبناء؟ معرفة الإجابة تتطلب متابعة حلقات البرنامج، (على أن تكون المتابعة عائلية)؛ لإشاعة روح -بين أفراد العائلة- تُقدر الجمال وتُثمن دوره في تعاطينا كأفراد وجماعات، مع مفهوم البيت وأهميته جماليًا ونفسيًا، من خلال دربة العين والروح للشعور بذلك.

الملصق الإعلاني الخاص بالبرنامج
“إن ما يميز المنزل البشري، وما يجعله منزلاً حقاً، هو الثقافة التي توجد مع الهندسة المعمارية”. حيث إن القيم التي تعتنقها كل مجموعة من البشر تؤثر على شكل ومفهوم المنزل، ففي بيئة مضطربة سياسياً واقتصادياً كالبيئة العراقية وما يتشابه معها، تُلقي هذه الاضطرابات بظلالها على مجمل مفاصل الحياة اليومية ومنها رؤيتنا وطريقة تعاطينا مع الأشياء من حولنا، من هذه الأشياء هي (البيت)، فعندما كان الإنسان يعيش في الكهف كان يبحث عن المأوى في المقام الأول، لذلك لم يكن يعنيه شكل هذا المأوى أو ما يميزه ويجمله أمام الظروف والأجواء القاهرة التي تحيطه وتهدد حياته. وبالمقارنة بين عالمنا اليوم وعالم إنسان الكهوف، نجد أن التحديات والظروف السياسية والاقتصادية التي ما انفكت ترافقها الأزمات في بلدنا جعلتنا نتعامل مع البيت بنفس الفكرة التي كان يتعامل معها إنسان ذاك الزمن، ولكن بطريقة وتقنيات حديثة!
في بيئة مثل بيئة العراق اليوم، يمثل امتلاك الفرد لبيت يخصه أشبه بالحلم، الذي يستدعي تحقيقه؛ عناء عمل الليل مع النهار، وتأخذ من عمره الكثير، مع الإشارة لشدة هذه الظروف وصعوبتها التي دائماً ما تخضع لاعتبارات وشروط الواقع التعجيزية. ففي مثل هذه الأحوال والظروف يصبح هدف بناء البيت وتشيده أشبه بهدف إنسان الكهوف، خالي من أي اعتبارات جمالية وفنية، هدفه الأول الحماية من خطر الأحوال والأوضاع المحيطة بأزماتها السياسية والاقتصادية. أما في البيئات التي يميزها الاستقرار والهدوء السياسي والاقتصادي، يكون الحصول على البيت جزءًا مكملاً لبقية احتياجات الفرد الحياتية الأخرى، وهذا بدوره ينعكس على تصميم البيت والهدف من بنائه.

منزل “شارما سبرنغز” في إندونيسيا، تصميم (إلورا) واحد من البيوت التي تم عرضها في البرنامج.
ما سيكتشفه المتابع لبرنامج Home، هذا الفرق بين البيئة المضطربة والبيئة المستقرة، من خلال بناء البيت بطريقة تعيد تقديمه إلى العالم بشكل مختلف، فيكون البيت عبارة عن عمل فني، يحتاج بناؤه إلى الشعور بالاستمتاع والسعادة، وأن يكون أي البيت جزءًا منك ومن تكوينك، ولعل من موجبات امتلاك ذلك الشعور، هو تحفيز المخيلة وتقدير الجمال والفن والطبيعة، بعد أن تكون هذه الصفات قد تشكلت لدى الفرد في مراحله العمرية المبكرة، وأصبحت ضمن السياق والمحور لثقافة وسلوك المجتمع. فمثلاً هل فكر أحدنا أن يبني بيته على قدر الأشياء التي يحتاجها ويستخدمها أم يجب أن يكون البيت مسرفاً بعدد الغرف والمساحة التي يشغلها؟ فالرفاهية قد لا تكون في مساحة البيت الكبيرة، قد تكون في تفاصيله الصغيرة، شكله، أو طريقة تصميمه، اللمسات الصغيرة في الداخل والتي تشبه السمفونية المعزوفة. ولتكتمل الصورة نتساءل، هل يمكن بناء مساحات رحبة في بيوت صغيرة؟ هل يمكن بناء بيوت تحترم الزمان والمكان؟ إذ لا يمكن عزل البيت عن الحياة تماماً، وهذا يستدعي التفكير في مواد البناء، وطريقة التصميم التي لا تلغي الطبيعة وتجعلها جزءًا لا يتجزأ من تكوين البيت وبنائه.
وليبقى السؤال المثير والمهم الذي يحفزه البرنامج في مخيلتنا هو: كيف نعيش وكيف نبني؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنبيه: لقراء المقال في العراق، برنامج Home متوفر على تطبيق سينمانا.
تدقيق المقال: خطاب الموصلي