فتح الهوا الشباك والنوم طار مني…

هذه الكلمات هي مفتتح أغنية المطربة المصرية العملاقة سعاد محمد، قد لفتت انتباهي وأنا أستمع لها ذات يوم؛ لعنصر مهم من عناصر المنزل المعمارية ألا وهو الشباك، هذا العنصر الذي لم يحظى بالاهتمام الكافي مجتمعيًا، وأقصد هنا أن وظيفة الشباك بقيت تستخدم في المجتمع العراقي إلى اليوم بنفس وظيفتها البدائية التي وجدت لها وهي: إنارة البيت، ومصدرًا لدخول التيار الهوائي. ولكن هل للشباك اليوم من وظائف أخرى مع تلك التي وجد من أجلها، تستدعي الانتباه والإشارة إليها؟

 

الشباك رؤية رومانسية:

في المقطع الثاني من أغنية المطربة سعاد محمد التي كتبها الشاعر مأمون الشنّاوي، نجد أن للشباك وظائف أخرى مع تلك التي وجد من أجلها حيث تقول:

روح يا نسيم الليل .. ئول للحبيب كلمة

الحب فَرْحْ وويـــل .. وكــل شيء قسمة

نكتشف من هذا المقطع أن تقادم الزمن وتنوع متطلبات الحياة أوجد للشباك وظائف أخرى كما سنبيّن لاحقًا، لذلك جعله الشاعر هنا وسيلة من وسائل التواصل خصوصًا بين العاشقين، رغم وجود وسائل أخرى للتواصل لكنه كان الوسيلة الأضمن والأسلم؛ مع وجود من يعارض هذا الحب أو يمنعه. وليس الشاعر “مأمون الشناوي” وحده من جعل الشباك وسيلة للتواصل مع الحبيب، فالشاعر “بديع خيري” عَبّر عن ذلك على لسان المطرب “عزيز عثمان” حين غنّى له قصيدته التي يقول فيها:

تحت الشبــاك .. لـــمحتك يا گدع

صادتني شْباك .. من عينك يا گدع

إذا عديت، ئُصاد البيت، أبوس رجليك

تبص لْفُوء، وتطفي الشوء، أمانة عليك

بص وتكلم

وبينما يأخذ الشباك دوره كوسيلة للتواصل عند شاعريْنا السابقَين، يتجلى للشباك دورٌ آخر مهم ليس كونه وسيلة من وسائل التواصل مع الحبيب أو الغائب؛ بل هو المنفذ الوحيد للتواصل، بسبب استحالة التواصل معهما من خلال الوسائل الأخرى وكما يتضح ذلك من خلال قصيدتين لشاعريْن هما: الشاعر “عبد الوهاب محمد” والشاعر “مرسي جميل عزيز”.

في القصيدة التي كتبها عبد الوهاب محمد وغناها المطرب راغب علامة، يقول فيها:

لـــــو شباككْ ع شبـاكي

كنت بئلك كيف بـهواكِ

لــكن ويني وإنتِ وينـكْ

في مسافة بيني وبينــكْ

لا عيني عم تلمح عينـك

أما الشاعر مرسي جميل عزيز فقد جعل الشباك في قصيدته التي غنتها المطربة نجاة الصغيرة، محطة ترقب مهمة والوحيدة لموعد اللقاء مع الحبيب أو الغائب حيث يقول:

أنـا أنـا بستنــــاك، بستنــــــاك أنـا

من الشباك وأنا خدي على الشباك

أنا والشوق وناره الحلوة بستنـاك

 

الشباك رؤية واقعية:

إذا كان الأدب والشعر خصوصًا نظرا إلى الشباك نظرةً جعلت منه الوسيلة الأبرز إن لم نقل الوحيدة للتواصل بين المحبين والغائبين بعد انقطاع وانسداد الوسائل الأخرى، مما أدى إلى كتابة الشعر والتغني بهذه التفصيلة البيتية وإبراز دورها المهم في هذا التواصل، فإن الرؤية الواقعية والتجربة تخبرانا أن الشبابيك تمثل مصدر التهديد القادم من الآخر الغريب؛ لذلك نسعى لتحصينها وإغلاقها بإحكام. ثم أنه ولقرب البيوت من بعضها؛ بسبب طريقة التخطيط والتصميم  مع عدم وجود مساحة كافية بين بيوتنا تحفظ لكل بيت خصوصيته، يكون الشباك هنا مصدر إزعاج أو تجسس من قبل الجار، فنسعى لإغلاقه باستمرار والحذر الشديد عند فتحه، ولهذا فقدت الشبابيك ميزتها التواصلية وبقيت تحتفظ بوظيفتها البدائية التي أشرت إليها مسبقًا.

رؤية متخيلة للشباك وأهميته وهو ينفتح على المشهد المديني

 

الشباك تجربة شخصية:

صحيح إنني أعيش في مدينة ذات بيئة يمتاز مناخها بأنه جاف وصحراوي مشمس طيلة أيام السنة وهي مدينة البصرة، لكن هذا لا يمنع من إمكانية وجود مساحات خضراء فيها لو تم الاهتمام من قبل الجهات المعنية بواقعها الجمالي لأنها أرض مهيئة ومستعدة لذلك. فتجربتي الشخصية مع الشباك في هذه المدينة تبدأ من البيت الذي وعيت وكبرت فيه، من بين جميع شبابيكه نمتلك شباكًا واحدًا يطل على حديقة المنزل؛ لكن ويا للأسف هذا الشباك لا نستفيد منه دائمًا كونه يقع في الغرفة المخصصة للضيوف والتي لا نستخدمها أو نجلس فيها إلا بأوقات محددة. أما بقية شبابيك البيت فهي مطلة على الجيران وكما ذكرت آنفًا من حذر شديد في استخدامها، وحتى إن استخدمناها؛ عند فتحها ستجد نفسك أمام منظر عشوائي من السكراب وبقايا الأغراض المهملة والزائدة التي تشغل سطوح الدور المجاورة، أو واجهات المنازل المتباينة والمختلفة، والتي تنعكس على الناظر بصورة مرعبة ومخيفة تسبب في النفس واللاوعي بؤس وحزن قد يظهر على سلوكنا وتصرفاتنا وأحاديثنا من غير أن نشعر بذلك. أما شبابيك البنايات في الأماكن العامة فإنها تُفتح على مشاهد غير منتظمة وغير متناسقة بشوراع يملئها ضجيج السيارات والباعة المتجولين وكذلك البنايات الممتدة والتي أُخفيت ملامحهما وتفاصيلها المعمارية بألواح (الكوبوند) أو تلك التي فعل الزمن بواجهاتها ما فعل، شوارع خالية من أي مساحة خضراء أو فسحة لإمتاع النظر واستنشاق الهواء النقي. لذلك تجد أن الشبابيك فيها مهملة وليست بذات أهمية في المبنى.

المشهد من شباك غرفتي المطل على بيوت الجيران

تابعت قبل فترة مسلسل سوري كان اسمه (شبابيك)، أغنية مقدمة المسلسل تبدأ بهذا البيت:

أكتر شي بحبو بـهالبيت هو الشبابيك

بتصوري إن ما يفتقده المِعماري وصاحب البناء (الزبون) أثناء الاتفاق على البناء، هو الحب؟! والحب ما أقصده هنا؛ الشعور والاحساس بقيمة وأهمية كل تفصيلة من التفاصيل المعمارية التي تصنع المبنى بالكامل، ومدى الحاجة الإنسانية التي تفرضها متطلبات الواقع لكل هذه التفاصيل. حب هذه التفصيلة (الشباك) والشعور بأهميتها يجعلك تبحث عن خيارات افضل وأماكن أجمل؛ لبناء مبنىً تُفتح شبابيكه على أجمل وأبهى إطلالة.

عن الحب الذي ذكرته، وأهمية الشبابيك وإطلالتها سوف أختم حديثي بموقف يذكره الدكتور “كمال السامرائي” في مذكراته (حديث الثمانين) عندما دخل لأول مرة إلى مدينة الطب في بغداد بعد إتمام بناءها إذ يكتب: “ولم يكن دخولي إليها لأول مرة يختلف عن دخول أي مريض يفتش عن السرير في الطابق الذي أحيل إليه من العيادة الخارجية، هذا يبحث عن سريره في الطوابق، وأنا أبحث عن شعبة النسائيات….

وفي غرفتي اجتذبتني حالًا منظر نهر دجلة وشاطئها في جانبي الرصافة والكرخ أكثر مما شغلني النظر إلى ما في هذه الغرفة من محتويات .. ومنذ اللحظات الأولى صار تطلّعي من خلال النافذة الوسيعة إلى النهر وما يدور على شاطئيه كثيرًا ما يلهيني من تصريف شؤون القيم التعليمية والإدارية، فكل ما يقع عليه ناظري يغري بمزيدٍ من التطلع والتفكر”

أحبّوا شبابيككم