في هذا الوقت الذي يقف فيه خريجو الثانوية العامة أمام قائمة لا تكاد تنتهي من الاختصاصات الجامعية المتاحة، نجد عدداً لا بأس به يختار منها ما يقوم المجتمع بتوجيهه له، سواء توجيه مباشر أو غير مباشر من خلال تزين بعضها ووضعها بقالب “المريح ماديا” وذو مكانة اجتماعية مرموقة. جميعنا يعرف ما هي هذه الاختصاصات، لكننا قد تساءلنا مرارا حول مكان الاختصاصات الإبداعية في هذه القائمة الطويلة، وما الذي يجعل تخصصات الفنون مطروحة بصورة جدية على الطاولة أو مقصية بعيدا عنها في نظر الموهوبين الشباب ومجتمعاتهم الصغيرة من حولهم؟

بعد تفكير مطول حول هذا التساؤل، نجد بأن الإجابة عليه لا يمكن أن تكون حقيقة في ظل غياب الإطلاع الحقيقي على أوضاع أولئك الذين كان الفن خيارهم المهني من الفنانين الأردنيين الشباب، وفي هذا المقال نطرح تساؤلات قد تقودنا فيما بعد -أو تقود من يعتبر دراسة الفن وامتهانه خيارا- إلى إجابة على سؤالنا الأول.

ما هي مشاكل الفنان الشاب حقا؟ خصوصا في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة ؟ ما هي المهارات التي عليه أن يكتسبها؟ ما هي هواجس الفنان على وجه التحديد؟؟ للحصول على بعض الإجابات نستمع لعدد من الآراء لكل من د. حسني أبو كريم عميد كلية الفنون والتصميم-جامعة الزرقاء، والفنانة ربى أبو شوشة المتخصصة بالفنون الإسلامية والحاصلة على درجة االماجستير في فنون العمارة التقليدية، والفنانة آية أبو غزالة بكالوريس فنون بصرية-رسم وتصوير.

 

بالحديث عن البدايات واتخاذ قرار احتراف الفن، تؤكد الفنانة ربا أبو شوشة على أن أهمية دعم المجتمع المحيط -بالنسبة لها-تساوي بالأهمية اتخاذ القرار نفسه، وأنها قد تلقت دعماً كافياً من الأصدقاء والأهل، إلا أن رأي آية أبو غزالة كان مختلفاً قليلا، فتقول: “كان اكتشاف واختيار هذا الاختصاص عبارة عن مغامرة لم أجد تشجيعاً سوى من والدتي -رحمها الله- حيث تعددت الآراء من حولي وحُكم علي بالفشل المسبق وذلك لاختياري تخصص لا يتلائم مع نتيجتي العالية في الثانوية العامة” وتعزز آية إجابتها بأمثلة على آراء العائلة والأصدقاء من حولها، وتقول:” بعض هذه الأراء كانت تتعلق بطبيعة العمل، وأن دارس الفنون سيتحول لمعلم في مدرسة حكومية مريحة أو في مدرسة خاصة تتطلب تفانياً والتزاماً عالياً، وآراء أخرى كالرأي الذي يقول بأن عالم الفنانين هو عالم غير جدي، سارح ومنحرف ربما، وبدخولي الجامعة لم تختلف آراء زملائي من التخصصات الأخرى، بل كنت مضطرة للرد وتثقيف من حولي بأهمية هذا التخصص واتساع مجالاته”.

 

أعمال للفنانة رُبا أبو شوشة

 

أما فيما يتعلق بالمشكلات والتحديات فتسلط أبو شوشة الضوء على التحديات التي واجهتها، فتذكر منها: “إن عدم وجود الدعم والتشجيع للاستمرار قد يكون الأهم، بالإضافة إلى المشكلات المادية وضيق فرص العمل في المجال، وبما أن التعلم المستمر أساسي لكل فنان فإن بعض المهارات يكون اكتسابها صعبا، كأن يوفق الفنان بين عمله الفني وتسويقه مثلا”

وبالحديث في ذات السياق، تٌركز آية على مشكلات في جانب مختلف عن رُبا، وتقول: “لا يمكن تجاهل الكلفة العالية لكل من مواد الفنون ونقل الأعمال الفنية كمشكلة، بالإضافة إلى أن التعاونات الفنية وفُرص العرض والإقامات الفنية  قليلة جدا وتعتمد بشكل تام على مثابرة الفنان الشخصية وعلاقاته العامة.” وتتابع آية حديثها لنا حول التحديات التي واجهتها فيما يتعلق بمهاراتها وحياتها المهنية، فتضيف: “يوجد فجوة بين سوق العمل وما يُدرس في كليات الفنون، في الحقيقة فإن الشهادة في هذا المجال تكاد لا تعني شيئا، فالمهم حقا هو نموذج أعمال الفنان ومشاريعه السابقة ومهاراته اليدوية، حتى أن عملي في مجالات متعددة كالتدريس والمبيعات والتصميم جميعها مهارات تعلمتها بشكل شخصي ومن الخبرة.”

إجابات كُل من الفنانتين دفعتانا للسؤال المباشر عن رأيهن حول الاعتقاد المجتمعي الراسخ بأن “الفن بطعميش خبز” ومدى حقيقة هذه الفكرة التي يصطدم بها الراغبون في دراسة الفن وامتهانه، فاشتركت الفنانتنان بالرأي حول أن وجود وظيفة ثابتة مهم ولو خلال بداية المسيرة المهنية للفنان، حيث أن -وحسب تجربة آية- فإن العمل في مجال الفن مفتوح ويعتمد على وضع الفنان وأسلوب حياته وأن العمل في المجال الحر لوحده يتطلب تنسيقاً اقتصادياً عالياً جدا، وأكدت ربا على ذلك أيضا وأضافت: بأن وجود وظيفة ثابتة ولو جزئية تساعد الفنان وتعطيه راحة أكبر للانغماس بعمله الإبداعي وتجاربه الفنية دون القلق بموضوع الربح، وقد أكدت على أن هذه النقطة هي مشتركة بين الفنّانين بشكل عام وليست حصرا على الفنان الأردني .

 

أعمال للفنانة آية أبو غزالة

 

خلال سياق االحديث والإجابات المتشعبة حول الأسئلة المطروحة، بدى الاتفاق واضحا حول المهارات العديدة التي يتطلب أخذ مجهود شخصي وفردي من الفنان لتعلمها، حيث لا تتضمنها مساقات التعلم الجامعية، بمعنى أن وجود الفجوة بين الدراسة الأكاديمية والحياة العملية موضوع لا يمكن التغاضي عنه والاستهانة به. لكن من يتحمل هذه المسؤولية ؟؟ هل المساقات الدراسية كافية ؟ وهل على الفنان دور إضافي بأن يقوم بإيصال عمله للمُتلقي؟ أم هل على المؤسسات الرسمية والتعليمية الالتفات لهذ المشكلة؟

ولتسليط الضوء على دور المؤسسات عموما  يُحدثنا أ.د.حُسني أبو كريم -عميد كلية الفنون والتصميم في جامعة الزرقاء- عن أنه وبالإضافة لمشكلات عديدة.. كغياب المدارس المتخصصة ونقص المدربين الأكاديميين والغياب التام للحالة النقدية المتخصصة، فإن نقص المؤسسات الداعمة تُعتبر واحدة من أهم المشكلات محليا. ويقول: ” إن توفير الدعم بأشكاله المتعددة المادي منه والمعنوي كالتشجيع والتحفيز إضافة إلى توفير مناخ إبداعي جميعها نقاط مهمة للغاية، وقبل كل هذا يجب توفير أكاديميات ببرامج حقيقية في كافة مجالات الفنون البصرية بكوادر من ذوي الخبرة” ويضيف: ” أعي بأن وزارة الثقافة -على سبيل المثال- توفر بعض الظروف من خلال مديرية تدريب الفنون إلّا أني أعتبر هذا غير كافٍ، قد يطول الحديث في هذا المجال ولكن باختصار فإننا نعاني من نقص شديد في النواحي الأكاديمية، كنقص في ساعات دراسة التخصصات الفنية محليا مقارنة بدول أخرى، بالإضافة إلى نقص لا يُستهان به في الكادر التدرسي المتخصص في مؤسسات التعليم العالي الحكومي والخاص كذلك”

 

أعمال للفنان د. حسني أبو كريم

 

وكنصيحة يقدمها د. أبو كريم للفنانين الشباب محليا فهو يؤكد على ضرورة أخذ الإبداع والفن بجدية أكبر من قبل الفنانين الشباب، فيقول: “كون الإبداع عمل جاد، فإن على الفنان القيام بجهد كبير ومضن والبحث دون كلل عن مصدر كل معلومة يتلقاها، بالإضافة إلى ضرورة العمل على تقوية البنى الأساسية من معلومات وقواعد وقوانين والاهتمام بقضايا التثقيف والتفاعل الحُر مع التجارب الإبداعية الأخرى.”

 

بدورنا نأمل أن نكون قد وفرنا مقدمة بسيطة ومتواضعة حول وضع الفن كخيار دراسي ومهني، والتحديات المرافقة له، وأن يكون طرحنا المستمر لآراء الفنانين الشباب منهم وذوي الخبرة على حد سواء يعمل بشكل أو بآخر على تعزيز مهنة الفنان الأردني على كل المستويات ويساعد في دفع عجلة تقدمه وجعله أكثر قُربا وعمله أكثر وضوحا لأفراد مجتمعه.