يسعى في عمله لاكتشاف القوة الكامنة في المادة التي يستخدمها في إنجاز منحوتاته، تكمن فلسفته بالتعاون مع المادة والسماح لها بأخذ حريتها كما تريد أن تكون بدلا من إخضاعها والسيطرة عليها وتغييرها عن المسار الذي تريد أن تتخذ.
إنه الفنان والنحات الحقيقي الذي يُقيم حواراً مع المادة التي يتعامل معها والسماع لما تريد أن تقوله وإتاحة الفرصة لجميع الخيارات للوصول الى الخيار الأمثل!
هو الفنان والنحات المتفرّد والمقيم في الأردن سامر طبّاع ، استقبلنا في منزله الكائن في عمّان لنخوض معه غمار الحوار حول مسيرته الفنية الطويلة والمليئة بالتنقّل ، كما قام بأخذنا في جولة حول مجموعته الخاصة التي صنعت من بيته متحفاً صغيراً مثيراً للاهتمام لا يتركك إلا في حالة من الدهشة.
لم أنظر إلى واحد من أعماله إلا وأعادني إلى مشهد سبق لي المرور من أمامه في الطبيعة بشكل تجريدي متسق ومتناغم، حيث تشترك أعماله مع الطبيعة بصفة التناغم والرقّة وقوّة المادة التي تنوّعت بين الحجر والخشب والمعدن والأصباغ.

صورة للفنان
حدثنا عن بداياتك مع الفن , وكيف بدأ الفن بالظهور في حياتك؟
لقد وُلدت بمدينة الطائف في السعودية , لم يكن هناك مدارس في ذلك الوقت, أرسلنا والدي أنا وإخوتي للدراسة فيدمشق في مدرسة داخلية, ولم أتلقى أيضا أي تعليم في الفن في المراحل الابتدائية أو الاعدادية أو الثانوية, كان أخي يقول بأنني كنتدائما أرسم على الصفحات الأخيرة من الكتب داخل الصف, لكنني لا أملك أيّا من هذه الرسمات بسبب تنقل أهلي من بلد لآخر, فقد كنا مثل البدو الرحّل, بين مكة والرياض ودمشق وبيروت وعمّان.
بعد انتهائي من المدرسة ذهبت للدراسة في أمريكا وحصلت على شهادتي الأولى في تخصص علم الاجتماع والانثروبولوجيا. حتى هذه المرحلة لم أكن أدرك بوجود أي موهبة لدي, عملت كعامل اجتماعي في أميركا لمدة سنتين. وفي هذه الفترة بدأت فيأخذ دروس في الفن مساءا, وكانت لديّ مُدرّسة تحثني على ترك كل شيء والتركيز فقط على ممارسة الفن.
وقد أخذت بنصيحتها فعلا وتركت العمل الاجتماعي وحصلت على شهادة البكالوريوس في الفنون الجميلة, ومنذ ذلك الحين كرّست وقتي كله للفن, لم أحب الدراسة والجامعة في تخصصي الأول , ولكنني عندما دخلت مجال الفن أصبحت أقضي كل وقتي في العمل.
وأكملت دراسة الماجستير في تخصص النحت, وقد قضيت ثلاثة أعوام في دراسة الماجستير رغم أنه سنتين, لأنني أردت تعويض الوقت الذي مضى دون أن أكتشف شغفي وأصبح فنانا.

مجموعة أعمال من أستوديو الفنان
لماذا اخترت النحت؟
لقد انجذبت للعمل ثلاثي الأبعاد رأسا خلال دراستي الفنون الجميلة, لم أكن أجيد الرسم أو استخدام الفرشاة, لكنني مارستالرسم عندما أصبحت واثقا من نفسي كنحات, حيث رسمت كنحات لا كرسام , لهذا تجدين الكثير من أعمالي المعلقة على الجدار تحتوي على المجسمات ثلاثية الأبعاد أو الحفر.
( في حديث عن عمل معلق على الجدار –في الصورة التالية– يقول): في هذا العمل تأثرت بفنان أمريكي اسمه جاسبر جونز, وقد كان يستخدم مادة الشمع كثيرا في عمله, أيضا كان هناكفنانين اسبانيين يعملون في مادة الشمع تأثرت بهم خلال وجودي في اسبانيا, شعرت بأن مادة الشمع مرتبطة بالنحت لطبيعة بنيتها, أقوم بتذويب الشمع وخلطه مع صبغات أجلبها من مناطق مختلفة من العالم لخلق أسطح شمعية على خلفية من خشب الام دي اف باستخدام أداة “المجحاف” التي يستخدمها العمّال في عملية طلاء الجدران.

عمل للفنان استخدم فيه مادة الشمع
أخبرنا عن فترة دراستك للفن, ماذا أضافت لك ؟
من الأشياء التي تعلمتها من الأمريكان خلال فترة إقامتي هو أنه إذا كان أحدهم يعرف ٩٠٪ حول شيء ما يقول بأنه لا يعرف تبقى عنده الرغبة والمقدرة والشغف على تعلم أشياء جديدة , وأما الاخر صاحب ال ٥٠٪ حول شيء فهو قد اكتفى بالقليل من المعرفة.
كان المدرّسين في الكلية يقولون دائما بأنهم هم من يتعلمون من الطلاب كما نحن نتعلم منهم, ولا يعرضون عملهم على طلابهم كي لا يتيحون الفرصة لهم بالتأثر به, على عكس الجامعات في بلدنا حيث يغمس المدرس طلابه في أسلوبه الخاص، ولا أرى بأن هذه الطريقة جيدة أبدا.
برأيي فالطالب يجب أن يصبح أفضل من أستاذه ومَهمّة الأستاذ هي أن يترك الحرية للطالب باختيار طريقته الخاصة. لقدسُمح لنا برؤية أعمال مدرسينا في الفصل الأخير من دراسة الماجستير, لأننا في هذه المرحلة أصبح لنا هويتنا الخاصة ولن نتأثر بعملهم وحاولت دائما أن أتأثر بالجذع وليس بالفرع.
كيف تكوّن أسلوبك الخاص في العمل؟
لقد كانوا أساتذتي يقولون بأنني كنت أخلق لغتي الخاصة بالعمل منذ فترة دراستي. كان للبيئة التي عشت فيها تأثيرا كبيراعلي, فقد ولدت في بيئة صحراوية, وكان منزلنا مبنيا من الطين, وكان له تأثيرا قويا علي, تأثرت بالصحراء, بوادي رم, برصيفمكسور, بفنانين عالميين كُثر, مثل النحات الياباني الأمريكي ناقوشي ورسامين اسبانيين مثل تابييس ومبرو والفنان الهولندي موندريان . أيضا كان هناك دور للتنقل بين الدول الذي كان سببه عدم الاستقرار السياسي في سوريا, عند انتقالنا من دمشق لبيروت تعرضت لصدمة تقريبا للاختلاف الكبير بين ثقافتها وثقافتنا , كانت أول مرة أتعرض للسؤال عن ديني هي في لبنان ولكن بيروت كانت تنبض بالحياة.
قضيت في أميركا أربعة عشر عاما, وعدت في 1979 عندما توفي والدي في لبنان, وكان أهل والدتي يقيمون في عمّان وعدتللبقاء معهم, قضيت سنة واحدة في الأردن بعد عودتي ثم انتقلت بعد ذلك لإسبانيا.

مجموعة أعمال من أستوديو الفنان
حدثنا عن فترة مكوثك في اسبانيا , ماذا أضافت لك كفنان؟
بدون شك كانت أهم الأعمال التي أنجزتها خلال مسيرتي هي في اسبانيا, عند ذهابي لإسبانيا واجهت صعوبة كبيرة في التأقلم والتعامل مع المجتمع المحلي, حيث كانت اللغة عائقا كبيرا, لم أكن أجيد أي كلمة اسبانية وفي المقابل لم يكن الإسبان يجيدون اللغة الانجليزية, أذكر أنني كنت عندما أطلب شيئا من المطعم أرسم لهم شكل الطبق الذي أريده. كان لهذا العائق دورا في إمضاء أغلب وقتي وحيدا وساعدني ذلك على إنجاز الكثير من الأعمال.
اخترت الذهاب لإسبانيا لقربها من البلاد العربية لكنها كانت مختلفة تماما ولديها طابع خاص وثقافة مختلفة, أيضا كانت في حينها تعيش فترة انتقالية حيث خرجت للتو من حكم ديكتاتوري وهو حكم فرانكو, كنت اعمل في استوديو صغير جدا لكننيأنتجت أفضل أعمالي في هذا الاستوديو.
بعد قضاء ثلاث إلى أربع أعوام في إسبانيا أصبح لدي رغبة في العودة والعيش في بلد عربي.
ما الأسباب التي دفعتك للعودة ؟
( أشار الفنان الى زوجتة الفنانة “دودي طباع” التي شاركتنا الجلسة وقال مبتسما) : أحد الأسباب كانت دودي, لقد قابلت دودي في معرض تصوير فوتوغرافي كنت قد أقمته في عمّان. أيضا أردت أن أشعر بعروبتي, فمهما عاش الإنسان خارج بلاده تبقى جذوره مهمة وأساسية. وعدت للاستقرار في الأردن في عام 1983.
من الأشياء التي تفاجئني في الأردن هو أن الفنانين لا يعرفون بعضهم , ألاحظ في افتتاحات المعارض لفنانين من جنسيات أخرى حضور عدد كبير من زملائه الفنانين من نفس جنسيته, على عكس معارض الفنانين الأردنيين , فعلى سبيل المثال في معرضي الأخير كان أغلب الحضور فنانين من جنسيات غير أردنية مقابل ثلاثة أردنيين أو أقل. ولكن لدي علاقات صداقة مع القليل من الفنانين.
أعتقد أنه لدى الفنان الأردني مشاكل مع نفسه, فهو يجلد ذاته كثيرا ولا أعرف السبب. حاولت عند قدومي بناء علاقات مع فنانين آخرين, لكنهم كانوا يتوقعون مني عملا مختلفا بمواضيع معينة , لم أحبذ أن يكون عملي واضحا , أحببت أن يكونعملي مبهما كي يدعوا المتلقي لبذل القليل من الجهد ليرى ماذا يريد العمل إيصاله ولا يكون ورقة يقرأها ويذهب. العمل التجريدي ليس سهلا, يقول بعضهم عن عمل معين بأنه يستطيع فعله بكل سهولة, نعم هو يستطيع ذلك, أنا أيضا أستطيع إعادة كتابة شعر المتنبي, ولكنني لست أنا من كتبه ومن فكر فيه.
على الفنان أيضا أن يجرب كل شيء, يستطيع الفنان أن يمضي مسيرته في نفس الطريق لكنه يبقى في مجال ضيق, أفضّل أن أجرب أشكالا عدة و موادا مختلفة خلال عملي, يرى الفنان أن حفاظه على الطريق ذاته في عمله يمنحه شعورا بالأمان, ولكن ليس هذا ما يدور حوله الفن, الفن هو أن تخلق شيئا جديدا وترى أشياء جديدة و تخاطر وتجابه. أحب أن أشاهد معارض لفنانين آخرين, إذا كانت معارضا جيدة, إذا لم تكن كذلك فهي تسحب مني طاقة كبيرة.

صورة من منزل الفنان
في الحديث عن المواد, هل تقوم باختيار المادة والتفكير بما ستفعله بها أم أن المادة تظهر أمامك؟
هناك العديد والعديد من المواد , الحجر مثلا يوجد فيه ملايين الأفكار ولكن الأمر يعود على الفنان لاكتشاف أفضل طريقةللعمل بها, أحيانا أرى قطعة خشب يوحي لي شكلها كما هي في الطبيعة بما يمكنني فعله بها, أحيانا أحلم بالعمل وأقوم بتنفيذه! هي من توحي لي بما يجب أن أقوم بفعله بها, أي أنني إذا سيطرت تماما على المادة أشعر بأنني أقتلها. وأحيانا أخطط لعمل بتخطيط شبه كامل.
نلاحظ في بعض أعمالك طبقات متوازية من المواد إلى جانب بعضها، الى ماذا ترمز هذه الخطوط بالنسبة لك؟
هناك وحدة كبيرة بين الخطوط المتوازية ، لأنها دائما تسير إلى جانب بعضها البعض، ويحتاج كل منها إلى الآخر، ولكنها لاتتلاقى أبداً. أرى الخطوط المتوازية في كل شيء ، في الفن الإسلامي ، مفاتيح البيانو ، البنايات ، مسارات الناس فيالشوارع..
في أعمالي التي تحتوي على خطوط متوازية أضع الحواجز الخارجية وأشعر بالحرية الكاملة للعمل داخلها.

عمل من داخل جاليري الفنان الخاص

عمل من داخل جاليري الفنان
هل كان لزواجك من فنانة تأثير على عملك؟ أو هل أثر عمل أحدكما على عمل الآخر بأي طريقة؟
لم يتأثر عمل أحدنا بالآخر, ولكن هناك فائدة كبيرة عندما يتزوج الفنان من فنانة أو العكس, حيث أن الطرف الآخر يقدّر عملك ويساعدك ويحثّك على الاستمرار والتطور دائما وعدم التوقف.
(أضافت زوجة الفنان دودي طباع ): “نحن فنانيَن مستقلَّين تماما, الشيء الوحيد الذي يجمعنا هو موضوع الفن بشكل عام, يمكننا النقاش حول الفن بذكاء ولا نسأل بعضنا أسئلة سخيفة مثلا, لقد كنت فنانة قبل أن أعرفه وكان فنانا قبل أن يعرفني.”
(ثم أكمل الفنان): أعتقد بأن ابنتي “نهلة” متأثرة بي, لقد درست الفنون وهي تمارس الفن وتخلق الأصباغ الطبيعية من كل شيء.

منحوتة من أستوديو الفنان
لم آتِ من عائلة فنية أبدا, كان والدي طبيبا , ولا يميل للفن, حتى أنه كان يعتقد بأنني أدرس الهندسة المعمارية , لم يكن بحسبانه أن يصبح أحد أبناءه فنانا. ولكن كان لنا أنا ودودي تأثيرا على والدتي, فحينما شاهدتنا نمارس الفن شعرت بأنه يمكنها البدء واكتشاف ما يمكنها فعله أيضا.
المزيد من الصور التي تظهر أعمال الفنان من داخل منزله والأستوديو الخاص به :

زاوية من أستوديو الفنان حيث يعمل

عمل معلّق على أحد جدران حديقة المنزل

تفصيل من عمل

العمل كامل من منزل الفنان