بإحساسٍ فريدٍ تجاه الأشياء واستعدادٍ كبيرٍ للفن، وُلدَ خالد السماحي في القاهرة عام 1971، وهو الذي راقبَ عمّه يتخذُ الرسمَ والنحتَ كهوايةٍ إلى جانب عمله كضابطٍ في الشرطة المصرية. شاهدَ السماحي عمّه الفنان الشرطيّ في طفولته لساعاتٍ طويلة بدهشة وفضولٍ كبيريْن، ما أتاح له فرصةً مُبكرة لتذوّق الفن وتجربته. كانت الفرصة الثانية الأهم في فترة دراسة السماحي للفن وقواعدِ الرسمِ الأساسيّة هي تعثّره بكتاب لمحمد صدقي الجباخنجي عن فنان البورتريه أحمد صبري ليكتشف السماحي نموذجَ الفنّ الذي يبحث عنه، ويقررُ اتخاذه أستاذًا يتتلمذُ على أعمالِه الفنيّة ودراسة تاريخه. 

يستعملُ السماحي أساسه الأكاديميّ المَتين في الرسم وينطلقُ منه بخِفةٍ وحُرية لإنتاجِ أعمالهِ الفنية، حيث تحتضن أعمالُه مساحةً كبيرةً لتصوير الوجوه المصرية باختلافها ولأنماط الحياةِ بتنوعِ مظاهرها. تُجسّد لوحات السماحي محطات القطارات والمساحات الطبيعية الخلّابة والأرياف والمسارح ودور الأوبرا ومشاهدَ عديدة أخرى، منها ما يرسُمه كتصويرٍ لمشاهدٍ يومية يُعايشها، ومنها ما يستوحيه من تاريخ مِصر، بما فيها تصويره للرهائن الإسرائيليين من جنود الاحتلال في حرب أكتوبر، والتوثيق المُدهش لمشاهِد العُنف المتخيّلة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيليّ ضد الأطفال في مدرسة “بحر البقر” في محافظة الشرقية عام 1970.

رافقْنا في “إطار فني” الفنان التشكيلي، خالد السماحي، في حوارٍ دافئ تمكنّا فيه من أن نسبر أغوار تجربته ورؤيته للفن، حيث نعرّج على أهم محطات حياته الفنيّة، ونتسائل عن دور الفنان في مجتمعاتنا كجزء من المشهد الثقافي الأوسع. 

 

كيف تشكّلت تجربتك الفنية؟ 

كانت أولى ذكرياتي مع الفن من خلال مراقبتي لعمّي وهو يرسم وينحت بحرية مُطلقة ودون أي قيود مهنيّة، فقد كان يهوى الفن ويمارسه بدافع الحب فقط، كما أنني كُنت محظوظًا بأن أستاذي في فترة الإعدادي والثانوي كان تلميذًا للفنان المصري الرائد أحمد صبري، الأمر الذي لعب دورًا كبيرًا في صقل موهبتي. أما والدي فقد كان يكتب الشعر والزجل، وانطلاقًا من حبه واحترامه لكل أنواع الفنون، لم يتردد في تقدير رغبتي في التوجه للفن، والالتحاق في عمر السادسة عشرة بتخصص التصوير، كلية الفنون الجميلة في الزمالك، التي أفتُتحت عام 1908 وتعتبر واحدة من أقدم كليات الفنون عربيًا. 

تمكنت من دخول كلية الفنون في عمرٍ صغير نظرًا لتحصيلي المرتفع في المدرسة وإجراءات تسريع سنين دراستي، حيث أنهيت مرحلة الدراسة في وقتٍ أقصر من أقراني. ربما كانت هذه التجربة خطوة جيّدة في تعلمي المبكّر للفن لكنها أثّرت على علاقاتي الاجتماعيّة. ورغم أنني أتفهم آراء البعض من الفنانات والفنانين عندما يتحدثون عن تجارب سلبية في كليات الفنون التي تكون الدراسة في العديد منها مَضيعة للوقت، إلا أنني أؤمنُ بأن الفنان بلا دراسة هو موهبة فطريّة بلا طريق، لأن الدراسة مهمة جدًا للفنان لتشكيل هويته، على الأقل في تجربتي، حيث انطلقتُ من كلية الفنون الجميلة في الزمالك لاستكشاف فن البورتريه وممارسته.

 

 

 

ما الذي يُلهمك في فن البورتريه؟ 

يَنبُع تقديري لفن البورتريه كموضوعٍ للرسم من اهتمامي العميق بقدرة الفنان على تجميد وجه شخص وتخليده للأبد، فالفنان لا يَرسم اللوحة كصورةٍ جامدة ولكنّه يَخوضها كرحلةِ حياة وحالةٍ روحانية فريدة من نَوعها، يعيشُ من خِلالها قصةً شخصيّة ويَستحضرها بكل تفاصيلها. شعرتُ بدافعٍ لرسم البورتريه أوّل مرّة عندما حَلمتُ بجدتي التي توفيّتْ وأنا بعمرٍ صغير، أردتُ أن احتفظ بالصورة التي كنتُ أراها فيها للأبد، من هُنا أدركت ضرورة الارتباط العاطفي بالحالة والفرد واللوحة، وأدركت أن الهامي في فني هو الحب، ومن دونه يستحيلُ أن أعمل. أملكُ قناعةً بأن المُتلقي الواعي يُمكنه تحديد الفنان المُحِب عن دونه من الفنانين، وأتمنى ألا أبدو مُبالغًا عندما أوصي بضرورةِ إضافة مادة مُتخصصة في الحب ليدرسها طلبة كليات ومعاهد الفنون. إن كلّ ما أرسمه من مواضيعٍ هو انعكاس لما يُؤثر بي وارتبط به وجدانيًا من حولي، بدءًا من الحياة اليومية ووجوه المارّة في الشارع وصولًا لحرب أكتوبر وأهم الأحداث الوطنية. يتغير اختيار المواضيع مع تغيّر حالتي النفسية أو الظروف من حولي، إذ أحاول التفاعل مع الأحداث وما أراه ذو أهمية على مستوى التوثيق البصري. عندما أنفدُ من الأفكار وأحتاجُ لإعادة التركيز والعمل على التكنيك من جديد، ألجأ إلى الأزهار، الورد هو ملجأي لإعادة صقل إحساسي ويدي كفنّان.

 

خالد السماحي

 

 

كيف يقدّم الفن رسالة وطنية؟ 

كأيّ فنانٍ صادق يرغبُ بالتعبير عن حدثٍ هام، حملتُ مسؤولية التقصي التاريخي لرسم مجزرة مدرسة بحر البقر في الشرقية رغم شُحّ المراجع، تخلّد هذه الأعمال ذكرى هذه المأساة التي ارتكبها الاحتلال وراح ضحيتها الأطفال الأبرياء. شاهدت العديد من الوثائقيات، وسافرت لمكان الحادثة، وزرت متحف الشرقية، واستعنت بأطفالٍ من نفس العمر وتحسسّت زيّهم المدرسي، حتى تمكنّت من فهم الحالة وتخيلها. لم أكن سأتمكن من توثيق هذه الحادثة لو لم أتبّعُ أسلوبًا فنيًا خاصًا منذ السنة الثالثة في دراستي، وهو ما بدا مبكرًا لدى البعض للتوقف عن العمل الأكاديمي والتوجيه لإيجاد أسلوب خاص، لكنني عملتُ ليلَ نهار ورسمت بشكل متصل لمدة 48 ساعة، وهو ما نتج عنه أسلوبي الذي أعمل على تطويره بشكل تلقائي. 

 

خالد السماحي

مجزرة بحر البقر

 

مجزرة بحر البقر

 

خالد السمااحي

مجزرة بحر البقر

 

تحدَثتْ أعمال فنية كثيرة عن أحداث ومشاعر وطنية مشابهة لما قمت بتوثيقه، لكن إمكانيّة نشرها وتعميمها محدودة، نظرًا للأسباب السياسية، أو التقنية المرتبطة بالنشر على الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. شخصيًا، تعرّض حسابي على الفيسبوك -الذي استعلمه منذ 14 عام- للإغلاق على خلفية نشر أعمال فنية حول الرهائن الاسرائيليين في حرب أكتوبر، مع أنّي غير مؤدلج سياسيًا، لكنني أرفضُ الاستعمار والاستيلاء على الأراضي والفصل العنصري. يُواجه الفنان العربي التقييد الرقمي من جهة، ومن جهةٍ أخرى التحديات الثقافية والسياسية. ولذلك، علينا كفنانين عرب أنّ نحترم فننا كفايةً لدرجة تحمّل الظروف وتجاوزها، وأن نعمل بما يرضي ضميرنا ويخدم أوطاننا وقضايانا.

حول واقع تعليم الفن في الجامعات، أحثّ طلبة الفنون على حب الفن ودراسته بحقّ، حتى لا تكون دراستهم عبارة عن تعلّم نظريّ لا يخدم طريقهم الفنيّ أو خطّتهم لصقل مواهبهم، خصوصًا إذا اختاروا رسم البورتريه. لو كنتم أعظم الفنانين في العالم، لا تجعلوا النجاح والشهرة خارج الوطن هدفكم، لأن اسمك الفني هو ما تصنعه من خلال أعمال مرتبطة بمكانك وموطنك وقضاياك، ولأن التعلق بالدعم الخارجي أو الفرص الغربية ستحدد خياراتك وأعمالك وبالضرورة رسائلك. 

بهذه التوصية اختتم الفنان خالد السماحي حواره، وهو الذي عمل إلى جانب فنّه كمُدرّس للرسم، وشغل مناصب ثقافية عديدة، أمينًا لمتحف محمود خليل عام 1995، ومديرًا لمركز يعد زغلول الثقافي عام 2001، ورئيسًا قسم التصوير الزيتي بمعهد الفنون في قطر، ليفتتح بعدها بسبع سنوات معهده الخاص لتعليم أساسيات وقواعد الفن الواقعي والأكاديمي. انطلق فن خالد السماحي من بيته مع عمّه، إلى كلية الفنون في الزمالك، حتى وصل المتاحف ودور العرض العربية والعالمية في الكويت وقطر والسعودية وبلجيكا وفرنسا وانجلترا وغيرها.

 

تحرير: أفنان أبو يحيى

 

رهائن الاحتلال الاسرائيلي