لا يوجد بين أنواع النشاط الإنساني نشاط خالد خلود الفنون التشكيلية ، ولم يبقَ من الماضي شيء يساويها قدراً بصفتها مفتاحاً لتاريخ المدنية ، فلا نزال منذ آلاف السنين نستقي من الأعمال الفنية الخالدة معلوماتنا عن عادات الجنس البشري ومعتقداته ولم نستعن بالسجلات المكتوبة إلا منذ وقت حديث نسبياً في تاريخ العالم . 

ومع أن هذه البقايا -بقايا الإحساس والتعبير- قد درست بتوسع رغبة في المعلومات التي تعطينا إياها فقد بقي الكنه الحقيقي للنشاط الفني ، والذي نسميه (الناحية الجمالية) ، وحتى هذا الوقت تحظى الأصول الإجتماعية للفن و الصلات القائمة بين المجتمع والأفراد المسؤولين عن ابتكار الأعمال الفنية بشيء غير كثير من الاهتمام . 

وهدفنا في هذا المقال هو عرض هذه المشكلة الأخيرة .. 

ليس المصدر الأساسي للفن إنتاج الأشياء سداً لحاجات عملية ، ولا التعبير عن أفكار دينية أو فلسفية ، لكنه مقدرة الفنان على خلق عالم مركب متماسك ومتناسب في ذاته ، خلق عالم ، لا عالم الحاجات والرغبات العملية ، ولا عالم الأحلام والخيالات ، ولكنه عالم مركب من هذين النقيضين .. فهو عبارة عن تصوير جملة الخبرات في صورة مقنعة مغرية .

لقد درس علماء الاجتماع  – الى حد ما –  الأنظمة المختلفة التي تظهر بها المجتمعات والأساليب الفنية التي تتفق معها ، وقد فرضوا على هذه الظاهرة نظاماً معيناً .. ولكن يرى الكاتب “هربرت ريد” مؤلف كتاب “الفن والمجتمع” بأن معالجة هذا الموضوع هي استنتاجية بشكل كبير .. والموضوع هو عن جوهر الفن ووظيفته في المجتمع ، فيعتقد الكاتب بأننا بلغنا نقطة تحول في تطور المدنية الحديثة أصبح فيها الجوهر الحق للفن في خطر من أن يعمى ، وأصبح الفن نفسه مندثراً من جراء سوء استعماله . 

وليست المسألة على الإطلاق مسألة عدم مبالاة به ، فالفن يمكن أن يبقى والناس غير مبالين به .. ولكنها على العكس من ذلك مسألة دفع الفن دفعاً في مسائل خلقية زائفة ، وجعله دون الآراء السياسية وتابعاً لها فحسب ولكن دون المذاهب الفلسفية أيضا ، بيد أن الفن نشاط قائم بذاته ، يتأثر كسائر نواحي نشاطنا بالملابسات المادية للوجود .. له صلات وثيقة بالسياسة والدين وبكل الطرق الأخرى التي تتفاعل مع حظنا الإنساني .

إن ممارسة الفنون وتذوقها شيء فردي ، لأن الفن يبدأ نشاطاً منفرداً ، وإنما يصبح ضمن النسيج الإجتماعي بصورة فعلية متى يقدّر المجتمع هذه الوحدات من الخبرات الفنية ويتشربها .. وتمثل الخيوط المكونة لشكل الثقافة النشاط الفذ (فوق المادة) الذي قام به أفراد قلائل ، وستتوقف قيمة هذا الشكل على الرقة التي تكيف بها العلاقة بين المجتمع والفنان . 

تقول المؤلفة الأمريكية  “روث بيندكت” في كتابها “أنماط الثقافة” ، إن المجتمع بمعناه الكامل ليس أبداً كياناً ممكناً فصله عن الأفراد الذين يكونونه ، فإن فرداً ما لا يستطيع أن يصل إلى فاتحة ما ينتظر منه فعله بغير ثقافة يأخذ مكانه فيها وعلى عكس ذلك ثبت بعد الفحص والدراسة بأن ليس في حضارة ما (او ثقافة ما) عنصر من عناصرها إلا وهو من عمل فرد من الأفراد . 

 إذن فنحن نبدأ بالتسليم بأن الفن لا يزدهر إلا في جو مواتٍ من الرحابة الاجتماعية والطموح الثقافي ، ولكنه ليس شيئاً يمكن أن يفرض على الثقافة شهادة لها بالعلو والوقار ، وإنما هو شبيه بشرارة كهربائية تظهر في اللحظة المناسبة بين قطبين متقابلين : أحدهما الفرد والثاني المجتمع .. وتعبير الفرد في هذه الحالة رمز أو قصة مشروعان من الناحية الإجتماعية . 

الفن يحاول في كل أعماله الأساسية أن ينقل إلينا شيئاً ما عن العالم أو عن الإنسان أو عن الفنان نفسه .  إن الفن طريقة للمعرفة ، وعالم الفن نظام للمعرفة ذو قيمة بالنسبة للإنسان تضارع قيمة عالم الفلسفة أو العلوم ، والحق أننا لا نبدأ في تقدير أهمية الفن في تاريخ البشر إلا عندما نرى بكل وضوح الفن بصفته طريقا للمعرفة مساوياً للطرق الأخرى التي يتوصل بها الإنسان لفهم ما يحيط به ، بل ممتازاً عنها .

المراجع : 

  • الفن والمجتمع / هربرت رد 
  • Ruth Benedict – Patterns of Culture