في طريق الذهاب لبيت واحد من الأصدقاء والذي يقع في مركز المدينة، شاهدت عند مدخل الشارع الرئيسي المؤدي إلى البيت؛ يافطة مكتوب عليها (مضيف عشيرة …)!

استوقفتني هذه البناية ويافطتها كثيراً، وتساءلت عن معنى وجودها في مركز المدينة؟ هل نعيش في مدينة يسودها القانون ويعلو فيها التفكير العقلاني، أم نعيش في قرية حيث سلطة العشيرة وأعرافها بما تنطوي عليه هذه الأعراف من ثارات ونزاعات وأحقاد، ولِما لها من آثار سلبية تهتك بنية المجتمع، وتؤثر سلباً على الأنساق الوظيفية لعمارة وحاضرة المدينة؟ لتقودني هذه التساؤلات لسؤال أهم وأكبر، هل يكفي إطلاق مسمى (المدينة) على كل تجمع بشري يعيش في أبينة من طراز حديث ويتصرف بطريقة تواكب متطلبات العصر؟ هل هناك شروط معينة كي تكتسب بيئة ما؛ صفةَ ومسمى (المدينة)؟

قبل ذلك وبشكلٍ مقتضب، لابد من الإشارة لبدايات نشوء المدينة؛ والتي تمتد جذورها لفترات تاريخية قديمة قدم الحضارات المعروفة، البابلية والآشورية والسومرية… المصرية، واليونانية، إذ ميزت نشأتها أول الأمر دوافع دينية أو حربية، تكريماً وعبادةً للآلهة من خلال بناء المعابد أو تسمية المدن بأسمائها، أو حصناً للاحتماء من الأعداء ونقطة تُشن منها الحروب، وصولاً إلى الحضارة الإسلامية لتنشأ معها أهم مدينتين؛ مكة والمدينة، فالأولى أُنشئت على إثرِ أمرٍ إلهي للنبي إبراهيم ببناء البيت الحرام، لتكون محجاً دينيا ومكانا للعبادة، والثانية أُنشئت لتكون حصنا للنبي محمد وأتباعه هربا من ملاحقة قريش وباقي القبائل، ومنطلقاً لنشر دعوته. ثم بعد ذلك نمت هذه المدن وتعددت وظائفها ونشاطاتها مع مرور الزمن، لتجتذب السكان والناس تدريجياً.

صورة متخيلة لمدينة من بلاد الرافدين القديمة، تظهر الزقورة (المعبد) في مركزها؛ كاشفة عن وظيفتها الدينية الأساسية التي أُنشأت من أجلها.

 

صورة متخلية لمدينة بغداد المدورة التي بناها أبوجعفر المنصور، يحيطها سور وبوابات لتحصينها وحمياتها من المخاطر.

لكن تبلور المدينة بشكلها الحديث بدأ مع بداية الحداثة الأوربية إبان عصر النهضة الذي انطلق في إيطاليا، والحداثة هنا “كناية عن منظومة فكرية قائمة على مجموعةِ قيمٍ (كالعقلانية، التفكير العلمي، الحرية، الفردانية، النزعة النقدية) وما سَتُحدثه هذه القيم من تغييرات جذرية، حيث الإصلاح الديني وقيام الثورة الزراعية والصناعية”، وكذلك إشاعتها روح التفكير العلمي التجريبي وسيادة القانون الوضعي مقابل غيبيات ويقينيات الكنيسة، ثم بعد ذلك لتُنتج لنا “فلسفة الأنوار والثورات السياسية والديمقراطية والعلمانية”. فالمدينة إذن هي نتاج كل هذه التراكمات والتحولات النهضوية، “والتي بدأت أدبية وفنية وما أحدثته من طفرة هائلة في الأفكار والحساسيات الجمالية؛ في الموسيقى، والفن التشكيلي، والعمارة” لتَنْقُل المدينة من مفهومها الضيق والبسيط الذي أُنشئت عليه، إلى فضاء أرحب ومنفتح؛ فضاء يستوعب ويتفاعل مع ثقافات أخرى متعددة، لتكون ميداناً رحباً للخلاف والتمايز في الأفكار والقيم. وليُعاد مع كل ذلك صياغة معنى ومفهوم المدينة.

يقول المفكر الإيراني داريوش شايغان في كتابه (الهوية والوجود): “أن الفضاء والمدينة التي تجسده، لا ينبثقان هكذا، مصادفةً. ثمة خلف هذه التحولات عقلٌ يتصورها، وروح تشترعها، ورؤية تضعها حيز التنفيذ”. ويرى شايغان أن بناء المدن يحتاج إلى فكر أو كما يسميه “فضاء ذهني” لأن هذا الفضاء هو الذي يُنمذج ويهيكل المدينة وروحها. فقبل أن تكون المدينة هيكل وبناء وأفراد، هي نظام حياتي منضبط وصارم يُعلي من قيمة العقل وسيادة القانون، وتتجلى قيمة العقل فيها بالسلوك العلمي لأفراد المجتمع، هذا السلوك لا يقتصر على المؤسسات التعليمية والمراكز العلمية فقط؛ أي أن بنية المجتمع يجب أن تكون بنية علمية قائمة على البحث والتجريب مقابل التسليم واليقين. أما القانون فلا يحتاج إلى مظاهر لفرضه كنصب السيطرات الأمنية أو كثرة دوريات الشرطة، فهو جزءٌ من سلوك الفرد وملكةٌ من ملكاته. تولي المدينة أيضاً لأفرادها الحرية، في اختياراتهم وتوجهاتهم الفكرية والعقدية، وضمان حقوقهم، بالمقابل تفرض عليهم واجبات يجب تأديتها، خصوصاً في الفضاء العام الناظم لعلاقاتهم وأن يتم استخدامه بما يُبيحه لهم القانون وبقدر حاجاتهم، “فلا يبالغوا في إظهار معتقداتهم الدينية”، لأن في ذلك إعلاناً للتَّميز وإظهاراً لحجم التفوق الذي تتمتع به هذه الجماعة أو تلك، لا التَمايز؛ والذي هو علامة من علامات المدينة الحقيقية، والتي يجب أن تَغْلُبَ وتسود فيها صفة المواطنة على أي انتماء آخر. إعلاء قيم المواطنة في المدينة، لا تلغي الانتماءات الثانوية بالضرورة بل تحفظها من التصادم والتغالب وتسمح لها بالقبول والتعايش. كذلك من الواجبات التي تفرضها المدينة على مواطنيها، احترامهم خصوصية الأفراد بالتمتع بالراحة والهدوء، خصوصاً في الأماكن العامة وتبدأ من استخدام منبهات السيارات، إلى مكبرات الصوت وما تصدره من أصوات عالية في المناسبات العامة والخاصة، وأصوات الباعة المتجولين بين البيوت في المناطق السكنية.

في الفيلم الكوري الجنوبي “The Witness” المأخوذ عن قصة حقيقة حدثت في أمريكا لشابة تقتل قرب شقتها، وأثناء تعرضها لمحاولة القتل كانت تطلب النجدة من الناس، لكن دون استجابة من أحد.

 

سيناريو الفيلم مختلف قليلاً، حيث تُقتل الشابة بالقرب من مجّمع سكني بعيداً عن بيتها. عندما تبدأ الشرطة بالتحقيق مع سكان المجّمع، يسأل الضابط امرأة تسكن في الحي، ما إن سَمعتْ صُراخاً أو لا؟ فتجيب المرأة، حتى وإن سَمعتْ صُراخاً، فهي لا تهتم ولا تُعيره أية أهمية، لأنها ستعتقد بأنه مشاجرة بين زوجين، وفي هذه الأيام الجميع يهتم بشؤونه الخاصة فقط، وسيتظاهرون بعدم سماعهم لأي شيء حتى إذا سمعوه. ثم بعد ذلك تطلب مسؤولة المجّمع السكني من الساكنين توقيع وثيقة قرار عدم التعاون مع الشرطة في قضية قتل الفتاة، لأن المرأة التي قُتلت ليست من هذا المجّمع، وأن تحقيق الشرطة في هذه القضية قد يُثير الضجة ويتسبب في انخفاض أسعار العقار!

ربما هذه المشاهد تأتي لإضفاء نوع من الإثارة والجذب، لتشد المتابع، لكنها بالحقيقة تُفصح عن سلوكين مهمين من السلوكيات التي تحكم العلاقات الاجتماعية في المدينة…

الأول: العزلة والفردانية، والعلاقات اللاشخصية، واللامبالة بالآخرين المحيطين. وهذا ما يظهر من خلال كلمة المرأة التي حقق معها الضابط.

الثاني: نظراً لمنطق السوق والتبادلات الاقتصادية، والتي هي سمة أساسية من سمات المدينة، “فإن العلاقات الإنسانية فيها تشيء” وتحكم الفرد فيها مجموعة من الخصائص أهمها، غياب العاطفة، وسيادة العقل الحسابي والمصلحة الشخصية! كما هو مع وثيقة عدم التعاون مع الشرطة، التي طلبت مسؤولة المجّمع من الساكنين توقيعها، حتى لا تُسبب ضجة التحقيق في انخفاض أسعار العقار.

بعد كل ما تقدم أعود لأتساءل هل من السهولة بمكان تسمية أي تجمع بشري يعيش في أفضل وأجمل عمارة، بإسم مدينة؟

هل يسود مدننا القانون الصارم والذي يلتزم به الجميع دون استثناء ويحكم الفضاء العام وعلاقات الأفراد فيما بينهم، أم تحكمها الغيبيات والشعوذة وسطوة اليقينيات والمسلمات؟

في مدننا كم هي مساحة الحرية والفردانية التي يتمتع بها أفراد المجتمع؟ هل يتمتع الجميع بنفس الحقوق والواجبات؟ هل يولي الجميع الأهمية لفكرة المواطنة، أو للانتماءات العشائرية والقبلية؟

علاقاتنا الاجتماعية هل تحكمها العزلة والمصالح الشخصية، أم أن الخصوصية مفقودة فيها، لصالح التطفل والفضول والإشاعة؛ والثرثرة المستمرة بشؤون وأخبار الآخرين؟ هل يعيش الفرد في مدننا بهدوء وسكنية، بعيداً عن ضجيج وصخب الشارع؟

المدينة إذن رؤية وفكرة وتصورات وخيال، يحملها العقل ويضعها حيز التنفيذ، وما التجمعات البشرية والمباني المعمارية سوى شكل من أشكالها.

بالمقارنة بين ما حققته المدن الكبرى المعروفة والمشهورة اليوم في المنعطف الفكري والثقافي والجمالي، من طفرة هائلة في ميدان (الفلسفة والعقلانية)، وكذلك في (الموسيقى، والرسم، والعمارة) وبقية الفنون، والذي جاء نتيجة عقود من التراكم القيمي، الذي فرضه عصر الحداثة الأوروبية كما أشرت، وبين مدننا العربية (كبغداد والبصرة ودمشق والقاهرة) التي خفت نورها وانتهت عصور زهوها، بعد ما كانت هذه المدن مركزا للمدارس الفكرية، وميدانا رحباً للجدل والتنوع وقبول الآخر وسيادة الفكر العقلاني. المقارنة تتضح وتتجلى بالانقطاع في التراكم المعرفي والعلمي الذي تعرضت له مدننا، بفعل المصاعب والمشكلات والتحديات الداخلية والخارجية التي واجهتها، وعجزت عن إيجاد حلولٍ ومعالجاتٍ لها. ليبرز التساؤل المهم الذي بدأت به المقال؛ تسمية أو صفة (المدينة)، التي نُطلقها على تجمعاتنا السكانية اليوم: هي تسمية حقيقية أم مجازية؟