إنَّ المدينةَ بوصفها مجموعة من الظواهر التي يُولدّها أو يحتويها المكان؛ لذا فإن دراستها والبحث عن تاريخ تطورها ونشوئها، يأتي من أهمية كونها مركز الحياة الذي يضم مجموع الممارسات المختلفة لسكانها ولأجيالها المتعاقبين. وباعتبارها كائنًا حيًّا، يجب النظر إليها كسلسة من التحولات المستمرة لا كمجموعة صور مجمدة، لكن مع أهمية المدينة وليس أقلها في خلقها مساحات واسعة للتواصل العام وتشّكل الهويات الوطنية، إلا أن الدراسات التي تناولت تأريخ نشوئها وتورطها في العالم العربي والإسلامي، اعتمدت كثيرًا إلى وقت متأخر من القرن العشرين على الدراسات والأبحاث التي كتبها المؤرخون المستشرقون، والذين ترافقت دراساتهم مع فترة احتلال بلدانهم التي ينتمون إليها لهذه المدن، لذا كانت نتائج نظرياتهم التي صاغوها عن مدن العالم العربي والإسلامي متأثرة بروح العصر التي سادت آنذاك، ونظرة الاستعمار للمنطقة وشعوبها، كما سيتبين فيما يأتي من المقال.

 

 

بدأت الدراسات الاستشراقية للمدينة في العالم الإسلامي بمدرستين مختلفتين:

١- المدرسة الألمانية ٢- والمدرسة الفرنسية واللتين فسرتا نشوء المدينة على أساس بنيتها الاجتماعية والدينية. وكذلك اعتمادًا على بنيتها وسماتها المدينية، بمقاربة مورفولوجية.

تعد أبحاث الأخوين وليام وجورج مارسيه “من أوائل المحاولات لصياغة مفهوم شامل للمدينة الإسلامية، وستكون مقالة وليام مارسيه (الإسلام والحياة الحضرية) واحدة من المحاولات التي قدمت ثيمات سيتكرر ظهورها مرارًا عبر عديد من المناقشات عن المدينة الإسلامية” [1]

في مرحلة الأخوين مارسيه وهم يجرون بحوثهم على مدن الشمال الأفريقي، استخدم المؤرخ الفرنسي جان سوفاجي البحث المورفولوجي-التأريخي في وصف وصياغة نظرياته. “وبالرغم من أن سوفاجي اقترح خططًا واضحة ومعقولة مهدت لاحقًا إلى استكشافات أثرية ودراسات مدينية، إلا أن مقاربته لدراسة المدينة الاسلامية لا تزال استشراقية، إذ هي تفسر بنية المدن السورية في القرون الوسطى على أنها نتاج الانخفاض التدريجي في الخطط الكلاسيكية المؤسسة” [2]

 

صورة توضيحية للشارع الرئيسي في مدينة القيروان، يظهر من خلالها المسجد والسوق

اعتمد سوفاجي على المسوح الفرنسية في دراساته للمدينة السورية، ومع تزايد استخدام المسوح في الدراسات المدينية، “استبدلت المقاربة الاستشراقية التي ميزت الموقف الغربي من دراسة المدينة الإسلامية، والتي ارتكزت على تفسير يصف هذه المدن بالغامضة وبسبب النقص بالمعرفة، بأخرى مرتكزة على معرفة أفضل للبنية المدينية”[3] حيث أصبحت لهذه المسوح الأهمية في الوصف المديني والمعماري للمدينة.

صورة لزقاق من أزقة مدينة حلب القديمة

وعلى الرغم من أهمية الدراسات الاستشراقية للمدن في العالم العربي والإسلامي، والتي لفتت النظر إلى أهمية هذه المدن على يد نخبة من الباحثين المرموقين بدءًا بالأخوين مارسيه، وروجيه لوتورنو، وجان سوفاجي …. وغيرهم الكثير، إلا أن هذه الدراسات كانت ترتكز على مدن تحمل آثارًا باقية لمواقع هيلينية كما في مدينة حلب، أو على مدن تضم آثار العالم القديم، وتمثل مهد الحضارة الأوروبية، كما في مدينة اسطنبول، وقد تم تجهل مظاهر المادة الإسلامية في بناء مدن العالم الإسلامي.

 

ليس غريبًا أن تكون نتائج هذه الدراسات على هذا النحو، فقد تأثرت أعمال هؤلاء الباحثين بروح العصر. روحًا كانت تنظر إلى الإنجازات الحضرية للشعوب الخاضعة لسيطرتها ومنها مدن العالم الإسلامي والعربي، نظرة فوقية، باستعلاء واحتقار، حيثُ اعتبرت هذه المدن خارج العصر ومتخلفة. وكان لا عجب أن يقلل الباحثين من شأن الإنجازات القائمة لهذه المدن قبل احتلالها من قبل دولهم، إبان حكم وسيطرة الدولة العثمانية، بسبب نفور المستعمرين وبغضهم لهذه الحقبة التركية.

في خمسينيات القرن العشرين شهدت المركزية الأوروبية بداية تفككها، هذه المركزية التي طالما احتقرت المناطق التي سيطرت عليها جيوشها، حيث بدأت الدراسات الاستشراقية في ظل استعمارها مناطق الشرق الأدنى وشمال أفريقيا. وكانت من ثمار هذه المرحلة، تغيُّر نظرة الغرب إلى هذه المناطق وحضاراتها، حيث بدل احتقارها والاستخفاف بها، تم التوجه إلى دراستها وفهمها. كذلك تمت الاستفادة من الأرشيفات العثمانية لهذه المدن في دراستها، بعد ما كان يُنظَر لهذه المرحلة بنظرة سلبية، بسبب دراسات المستشرقين، حيث كانت هذه المرحلة موضع كره للاستعمار كما أشرت آنفًا. أما أبرز ثمار هذه المرحلة، أن خضعت الدراسات الاستشراقية لنقد أولي، وكان لنظرية إدموند باوتي التي وصف بها المدينة “استنادًا إلى عوامل جغرافية واجتماعية وتاريخية واقتصادية ستهيمن في السنوات اللاحقة” [4]

لقد شكلت القراءة الاستشراقية الأولية للمدن في العالم الإسلامي تأثيرًا سلبيًا بالغًا على دراسات الباحثين المتأخرة المكتوبة عن المدينة في العالم الإسلامي. ولكن قبل ذكر هذه التأثيرات، لابد من الإشارة إلى بعض الاستنتاجات التي شكلت أساس القراءة الاستشراقية:

١- النظرة الدينية لتشكل المدينة ودور الإسلام في نشأة مظاهرها المدينية وهيكلة المكان. حيث اسُتنتجت وفق هذه النظرة، أن المدن مجموعة مفككة ومتفوقة من الأحياء، تسيطر عليها جماعات يجمعها رابط ديني أو غيره، متضاربة المصالح ويعملون لحسابهم الخاص.

٢- افتقار هذه المدن إلى التنظيم الإداري والحضري وغياب المؤسسات البلدية، يسيطر على المدينة الحاكم أو الأمير وتأتمر بأوامره مباشرةً.

 

لقد أثرت استنتاجات هذه القراءة الاستشراقية على الباحثين المتأخرين، في تحديدهم للخطوط العريضة للمدينة في العالم الإسلامي، حيث افتقروا إلى المعايير الإيجابية في ذلك. وسيظهر ذلك في مؤلفاتهم حيث ذكروا ميزات -التي صاغها المستشرقون عن المدينة الإسلامية- اعتبروها خاصة بها وحدها. فمثلًا من الميزات التي وصفوا بها هذه، هي: الأسوار، القصر، الجامع المركزي، الأسواق والحمامات العامة، الأحياء المنفصلة والمنزل ذو الفناء الداخلي.

كل هذه الميزات لا تخص المدينة المسلمة وحدها، قد تشترك بها مدن العالم الغربي والعالم القديم أيضًا، كما في معظم مدن بلاد ما بين النهرين.

فقد احتلت الكاتدرائية وسط المدينة في مدن الغرب بدل الجامع. أما المنزل ذو الباحة والأحياء المنفصلة فقد وجدت في مدن العالم القديم كما تشير كثير من المصادر التي اهتمت بدراسة تلك الحقبة.

 

صورة تقريبية للمدينة المنورة، يظهر المسجد النبوي في مركز المدينة محاطاً ببقية الأبنية ومنها السوق

قد يكون السوق هو العنصر المميز للمدينة الإسلامية، “كونه لم يوجد لا في الشرق القديم ولا في أوروبا” [5] كما يؤكد ذلك الألماني يوجين ويرث. إلا أن هذا لا يغير من الواقع تلك التأثيرات السلبية التي تركتها دراسات المستشرقين كثيرًا، تشير لذلك عالمة الاجتماع الأمريكية من أصل فلسطيني جانيت أبولغد حيث تقول: “في كتابي السابق عن القاهرة، وقعت فريسة لهذا الفخ الذي نصبه المستشرقون، فقبلت سلطة استنتاجاتهم عن طبيعة المدينة الإسلامية، إذ بدا لي آنذاك الصرح الضخم الذي شيدوه عبر السنين قويًا ومنيعًا على النقد. قبل أن تتكشف لي رويدًا مؤامرة القص واللصق وينزاح عني ذلك الوهم. ويقتضي الحال هنا أن أوجه عناية القارئ إلى كتاب “المدينة الإسلامية” Islamic City من إعداد ألبرت حوراني و صموئيل ستيرنAlbert Hourani and Stern والذي يقدم بداية عقلانية لنقد الدراسات السابقة. فيوضح حوراني في مقدمته أن شمال أفريقيا كانت مصدرًا لعديد من الأمثلة التي استمد منها المستشرقون تعميماتهم. وثانيًا فإن مقالات ستيرن وكاهان الواردة في الكتاب تعد رفضًا واضحًا للدراسات التقليدية التي تمت على موضوع روابط الحرف والصناع والتي لم توجد حقيقة في مدن العالم الإسلامي. وثالثاً فإن مقالات صالح أحمد العلي ويعقوب لاسنر على المدينة الدائرية (المدينة التي تأسست عليها بغداد) كمثال على المدن المخططة في الإسلام، لا تشبه نمط المدن المخططة الذي تعتمده الدراسة بأي حال.

منذ ذلك الحين، قمنا بإضافة عدد من الدراسات الجديدة على المدن العربية وبضع من الكتب وكثير من المقالات صدرت بعناوين مختلفة تشير كلها للمدينة الإسلامية. إلا أننا لم نصبح أكثر تأكدًا مما سبق. ما أوضحه ديل أيكلمان في مقاله “هل هناك مدينة إسلامية؟” إلا أنه لم يتضح قدر الكفاية إلا في مقال آخر لأيكلمان وكينيث براون.

الحقيقة أن أغلب الدراسات في هذا الشأن لازالت تركز على مدينة واحدة لتستنتج منها تعميمات على سائر المدن بينما يغيب السؤال الأساسي: لماذا نفترض أن المدن الإسلامية ينبغي أن تتشابه؟ وإذا تشابهت، فما هي الطريقة التي ينبغي أن يكون عليها هذا التشابه؟” [6]

إن القراءة الاستشراقية التي تشكلت على أساس ديني في قراءتها للمدن الإسلامية كما أسلفت، جعل هذه الظاهرة الحضرية تبدو “كثوابت في إطار استمرارية تأريخية تمتد ثلاثة عشر قرنًا وعلى امتداد عالم إسلامي يغطي ثلاث قارات وصولًا إلى الصين البعيدة” [7]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

[1] المدينة الإسلامية: الميثولوجيا التاريخية، الأصل الإسلامي، والمعنى المعاصر، جانيت أبولغد، مقالة منشورة على الإنترنت.

[2] المدينة في العالم الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربية، ، ص54

[3] المصدر نفسه، ص55

[4] المصدر نفسه، ص60

[5] المصدر نفسه، ص66

[6] جانيت أبولغد، مصدر سابق.

[7] المدينة في العالم الإسلامي، مصدر سابق، ص106