تحدثت في المقال السابق (عمارتنا المحلية العراقية والتحولات السياسية) وكيف ألقت الاضطرابات السياسية التي تعيشها البلاد منذ عقود بظلالها على عمارتنا المحلية وحجم التشوه والدمار الذي طالها نتيجة ذلك. ولتكتمل الصورة، يأخذنا الحديث في هذا المقال عن المكان بوصفه حاملاً لهذه العمارة، وكيف عكس صراع الهيمنة عليه، بين السلطة (ممثلةً بأحزاب وسياسيين)، والمجتمع ممثلاً (برؤوس الأموال مُحدثي النعمة وأفراد انتهازيين) يعتاشون وتنشط فعالياتهم في الأجواء والظروف غير الطبيعية التي تعيشها البلاد، عكس هذا الصراع تداعياته على المكان في إنتاج عمارة تعبر عن سطوة السلطة وقهرها مرة، وعن تمرد ورفضه مجتمعي لها في أخرى.

 حديثنا عن المكان هو حديث عن فضاء عام ومساحات مفتوحة، لا ينتمي إلى أي شخص، بل ينتمي إلى الدولة ككيان يجمع (السلطة والمجتمع). ولأنه فضاء ومساحة كاشفة عن سلوك ورؤية الفرد والجماعة؛ بما يحمله من مبانٍ ورموز، فإنه كذلك يكشف عن حجم التأثيرات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تمارس عليه. من هنا يجري الحديث عن هذا الصراع. فالمكان الذي تشكله الحروب والاضطرابات السياسية والاقتصادية، من المؤكد أنه لا ينتج سوى عمارة هجينة ومشوهة.

التخريب والتشوه الذي طال المكان العراقي مر بمراحل: في المرحلة الأولى تناوبت عليه السلطة لوحدها جاء كتعبير عن سطوتها وقهرها لأفراد المجتمع، وفي الثانية: المجتمع وحده؛ بعد انهيار هذه السلطة عام 2003 ليكون هذا التجاوز كنوع من رد الاعتبار لأفراده المستلبين والمقهورين من الحكم السابق، كاشفاً عن مدى اغتراب هذا المواطن وانفصاله عن مكانه، فهو يرى فيه مكاناً تابعاً وملكاً لسلطةٍ اضطهدته وحرمته منه.

(المحكمة القديمة) في منطقة البصرة القديمة، يتبين من الصورة حجم الخراب الذي طال المكان مع التقادم وتهاون السلطات تحول إلى مجمع للسكن العشوائي

اليوم ومع تعاقب الحكومات المُشَّكلة بعد 2003 (لحظة انهيار النظام السابق)، وعودة السلطة تدريجياً يمر المكان العراقي بمرحلته الثالثة: إذ تتناوب السلطة والمجتمع معاً في السطوة عليه، في لحظة غريبة تعيشها الدولة العراقية منذ تأسيسها كاشفةً عن أمرين؛ الأول ضعف السلطة في مناطق، ومهادنتها لتجاوزات الناس من أجل الحصول على مكاسب انتخابية وقبول شعبي في مناطق أخرى، والثاني تمرد المجتمع ورفضه الامتثال للقانون في حالةٍ تبين كيف يخضع المكان لسيطرة وقانون الجماعة التي تسكنه. في هذا السياق يأتي كتاب (المكان العراقي؛ جدل الكتابة والتجربة) حرره وجمع نصوصه الكاتب والقاص لؤي حمزة عباس، راصداً لسلسة الصراع والتخريب هذه وليكشف لنا أن خراب المكان لم يكن أمراً فجائياً اكتشفناه مؤخراً، فقد مر المكان العراقي بمراحل من التهديم بدءًا من ثمانينات القرن الماضي وصولاً إلى لحظتنا التي نعيش.

 

 

ففي الثمانينات وعلى مدى عقدٍ كامل تقريباً أخذت الحرب (العراقية-الإيرانية) والتي استمرت لثماني سنوات، مأخذاً من المكان فتغيرت مخططات مدن جرى تجريف مساحات واسعة منها، “وحورت الكثير من المباني والمنشآت لتناسب مهمتها الجديدة” في ممارسة وحشية كاشفة عن علو كعب السلطة وهي تفرض سطوتها على المكان، لتبلغ هذه السطوة والهيمنة ذروتها في عقد التسعينات حيث “ترجمت السلطة كل شيء لصالحها: الشوارع، والنصب، والمتنزهات.. المدارس، والمعمل والجامعات.. المساجد، والمتاحف والمكتبات..”

صورة لمبنى (بهو الإدارة المحلية في البصرة) مسرح لنشاطات ثقافية متنوعة، تُظهر سطوة السلطة على المكان؛ في الأولى استخدم هذا المبنى الثقافي كمتحف لحروب ومغامرات السلطة السابقة. أما الثانية فتبين سطوة السلطة الجديدة بعد ان منحت المكان لمستثمرين حيث هدم المبنى القديم، ليبنى مول تجاري بدل منه.

هذه السطوة التي تعلن عن انتصار السلطة، جاءت لحظة 2003 مقابلها معلنة عن انتهاء سطوة السلطة لتبدأ سطوةٌ أخرى؛ هي سطوة المجتمع في لحظة تكشف عن حجم الوحشية والبربرية التي تُميز سلوك كثير من أفراد وجماعات هذا المجتمع، فانتشرت المباني والتجاوزات “في قلب الشوارع والأرصفة والساحات العامة والمدارس والمعامل، تهدم ما شاءت من الأسيجة، وتقطع ما شاءت من الأشجار، وتقيم بدلاً منها ما شاءت من الأكشاك والمخازن والغرف المفردة والمنازل، فليس ثمة رادع من قيمة فاصلة بين ما هو (لي) وما هو (لنا) ..”

حديقة البيت الصيني أو ما تعرف محلياً بـ (شفقة العامل)، تكشف الصورة الفرق بين وظيفتها الأصلية كحديقة عامة، وسطوة الناس عليها وتحويلها إلى بيوت سكنية فيما بعد.

اليوم وبعد مضي سبعَ عشرةَ سنةً على التغيير وتبدل الحكم بآخر، وعودة السلطة لفرض سيطرتها على الدولة، إلا أن المكان العراقي لا يزال يعاني السطوة، وهذه المرة بالتناوب بين (السلطة والمجتمع)، فمن جهة تمارس السلطة (بأحزابها وسياسييها) سيطرتها على أماكن كثيرة ليس لمصلحة الدولة ككيان بل لمصلحتها وما تؤمن به من أفكار يغلب عليها توجهها الديني والعقائدي، وهو استمرار لأسلوب ونهج السلطة السابقة لكنه بغطاءٍ مختلف، غطاءً أكثرُ مقبوليةً من سابقتها؛ غطاءُ الديموقراطية والشرعية. فتحولت كثيرٌ من الأماكن، مقرات لهذه الأحزاب وأماكن أخرى جرت المزايدة والمناقصة عليها، ليتم بعدها هدم أو تحوير عمارة المكان، ولتنتشر معها ظاهرة تغليف واجهات المباني بمادة الألمنيوم أو ما تعرف محلياً بـ (الكوبوند) لتضيع بذلك تفاصيل واجهات كثير من المباني ويضيع معها جهد وتعب معماريين اجتهدوا بتصاميمها، وتضيع معها واجهة مدن بأكملها. لتقابلها من جهة أخرى سيطرة المجتمع وهو يهدم ويتجاوز على ما شاء له من المباني، كاشفاً عن حجم الانتهازية والوحشية التي تشي أفعاله وسلوكياته، وكذلك ضعف الدولة وسيادة اللاقانون فيها.

يحمل المكان العراقي اليوم أقسى سمات عنفه ووحشيته، بين سلطة تستتر بغطاء الدولة، ومجتمع منح نفسه حق التصرف بأي أرض تحت ذرائع (اجتماعية: بسبب الفقر وقلة فرص العمل وتقاعس الدول عن أداء دورها، مما يبيح لنفسه حق التصرف بالمكان كبناء المحلات والمعامل والأسواق الشعبية…) وذرائع (دينية: بناء دورٍ للعبادة أو أماكن لممارسة الطقوس والشعائر الدينية)، لتضيع بذلك هوية المكان، ليتقهقر ويختفي الحد الفاصل بين المدينة واللامدينة، مخلفاً انحداراً بالذوق واختلالاً أنتج وما يزال يُنتج مبانٍ تفتقد القبول والألفة والانسجام معها.