تشد الرحال الى حاضرة الامويين (مدينة قرطبة) الأندلسية للتمعن بقبابِ وأقواسِ مسجدها الكبير، ولترك النفس لاسقاطات موشّحاتها على زوايا قصور الخلافة وورود حدائقها الذي “جال الندى فيه حتى مال أعناقا”(1)، ولكن قلةً قليلة تختار الذهاب الى بيت رجلِ ربيع قرطبة وخريفها! دار رجل ٍعاش كل ظروف الحياة وطبقاتها الاجتماعية، بيت الحاجب المنصور وآثاره التي تعد تفرداً وتميزاً معمارياً يستحق قطع المسافات!

محمد بن أبي عامر ( الحاجب المنصور) ذلك الشاب المزارع الطموح الذي جاء من الجزيرة الخضراء بنيّة إمارة الأندلس، وأتقن العلم والدين والثقافة والفنون والتجارة ليرتقي منها جميعاً إلى اتقان السياسة بلبٍّ فطنٍ ولسان سليط فيصير حاجب الخليفة الصغير هشام ولد الحكَم (المستنصر بالله) سنة 977 ميلادية، ثم تحت لقب الحاجب تفرد بالسلطة واستأثر بها وحتى ينال شرعية هذا الحكم من الناس أرسل وقاد أكثر من خمسين حملة عسكرية في شتى بقاع ايبيريا حتى وصل ليون في الشمال(2). وخلال فترة الحجابة وحتى إنشاء مدينته الزاهرة –التي لم يتم الكشف عن أنقاضها بعد- عاش المنصور في بيت وسط مدينة قرطبة بمساحة ليست كبيرة لكنها موزعة بطريقة هندسية مثيرة تجعله قصراً رئاسياً صغيراً!

إن كل من يرى العمارة الإسلامية في الأندلس إجمالاً يستقر في نفسه مدى تفردها بتعظيم البعد الإنساني (Human Scale) واختيار كل ما يضفي البهجة والسعادة على ساكنها دون تطاول أو تضخيم للبنيان. وتأتي هذه الدار لتثبت فحوى النظرية فيتدرج زائرها بفتح أزرارها وأكمامها فينتقل من بوابة بسيطة وجدار خارجي لا يتجاوز الخمسة أمتار إلى أفنية واسعة عبر أقواس من الإغراء والتشويق. فبوجود أربعة أفنية (Courtyards) – وليس فناء واحداً كما في أغلب البيوت الاندلسية –  في تلك المساحة الصغيرة يتقسّم ويوزع هذا البيت إلى استخداماته التي وجد لأجلها بما يتضمن استجمام وخصوصية كل من أقام فيه: فناء الاستقبال، وفناء الضيوف، والفناء الرئيسي الداخلي، وفناء النساء.

من البوابة الخارجية إلى الداخلية يتربع فناء صغير كان للوقوف برهة لاستقبال ضيوف المنصور وتوديعهم او ربما لفرزهم. ثم ببوابة داخلية ذات قوس مجلل بالخضار تنتقل لفناء الضيوف  لترى على يسارك جدار أخضر بالكامل ترتكز عليه نافورة رومانية وينقل هذا الفناء إما لمكتب المنصور أو إلى أجنحة للضيوف بدرج مستقل يوصلهم إلى المستوى العلوي بجهتين للرجال والنساء كل على حدة. كما أن هذا الفناء  يوصل إلى المطبخ الرئيسي الذي يعد نصف طابقٍ تحت الأرض لتجهيز ولائم الحاجب وضيوفه الأرستقراطيين.

وبمستوى أعلى من فناء الضيوف بقليل يطل الفناء الداخلي الرئيسي وهو أكبر أفنية الدار وبه نافورة أخرى تلتصق أيضاً بحائطها الأيسر وتحاط بالورود على الجانبين. يوصل هذا الفناء المنصور إما لعالم السياسة أو لبيته الدافئ؛ يدخل المنصور عالمه السياسي برواق بأعمدة وأقواس فيه بوابتين لغرفة كبيرة بمثابة مكتب سياسي، فيها يقيم الاجتماعات ويعقد الخطط ويسير امور الديوان الخلافيّ، ولا تزال هذه الغرفة قائمة بمكتب خشبي مرصع عتيق وأقلام وقصب وورق أصفر يسر الناظرين ومقاعد وخزائن بمثابة تحف فنية كانت توضع بها ملفات الدولة جميعها، إلا أن إطلالة هذه الغرفة بفتحات صغيرة في نوافذ كبيرة على الفناء الداخلي وبمواربة اقواسه وأعمدته تحفظ خصوصية البيت وتمكّن أسرار الدولة. ومن غرفة السياسة لم يخلُ الأمر من وجود مخرج لزقاق صغير بعرض متر واحد يمتد على طول محاذاة البيت لغايات الحجز الخاص لمن اشتبه بالخيانة أو أراد التحقيق معه بقضية خاصة. حتى أن البيت الآن يسمى بالاسبانية ببيت الرؤوس (كاسا دي لاس كابيثاس) بسبب أسطورة قشتالية تقول أن الحاجب المنصور علّق في هذا الزقاق سبعة أبناء لملك مدينةٍ قشتالية (على عدد أقواس هذا الزقاق) وقطع رؤوسهم ثم أرسلها إلى أبيهم!(3) وهي أسطورة عزاها البعض لقوة اثر المنصور في نفوسهم حيث أنه لم يخسر أي من غزواته معهم والرأي الآخر أنّ أهل قشتالة عُرِفوا بحكاياتهم وأساطيرهم عن الفرسان الخارقين وذلك كان جلياً باستهزاء ثيربانتس بهم في روايته دونكيخوته.

ثم إن أراد محمد بن أبي عامر الدخول الى عالمه الشخصي ينقله نفس الفناء الرئيسي عبر بوابة كبيرة  إلى منزله المريح بطابقين علوي وسفلي بممرين يفضيان الى غرفٍ بمرافقها الخاصة التامة وبتصميم داخلي إسلامي من نحت ونقش ومكملات قماشية مزركشة و تحف نحاسية منمقة. وفي فناء لنسوة المنصور في الطابق السفلي يجمعهنّ حتى وإن كنّ كلاً في طابقها بهندسة فراغية جميلة تجعله رغم صغره نسبياً مراحاً ومنتجعاً يقمن فيه جميع وسائل الاستجمام من حديث وتجميل ورقص وغناء فارتدادات الصوت فيه تجبرك على أن تصدح بصوتك مع صوت المياه وإطلالة فسحته على بقعة خضراء تُهيم روحك بمقامات العاشقين.

وكما في أسقف تلك الحقبة والأندلسي منها خاصة، إن لم يكن سقفك السماء كما في الأفنية، صار لزاماً ان يكون جمالاً من نوع آخر بنحت خشبي مطعّمٍ بالعاج والفضة والنحاس والمقرصنات. ثم تتوحد العقود في أروقة البيت بكونها دائرية النوع بأقواس متلاقية بعضها أبيض مغاربي وبعضها الآخر بلون دمشقي وروماني عتيق، وأعمدة بتيجان بعضها ببدنٍ دائري بسيط والآخر مورق أندلسي. ليجمع بين طبقتي البناء: المنازل البسيطة والقصور المعقدة.

وأخيراً لا نُغيِّب صورة البيت الأندلسي أمويّ الروح والرائحة بياسمينه ونباتاته الطبية من الزعتر والنعنع والمردقوش وغيرها، والذي بطرب مياهه وسواقيه ينعش نفسك وعقلك ويرطب كل ما فيك، ثم بانحناءات زلّيجه يسوق فكرك وينظمه حتى تجد كل مشاكل حياتك باتت تُحلّ بنوتاتٍ وألوان! أو كيف تسوقك هندسته من بهو إلى بهو بفضاءات رحبة ومن مستوى ضوئي إلى آخر بلا ملل ولا رتابة. إلا أننا هنا نعرض الأكثر إدهاشاً في هذا البيت وهو هندسة مساحته التي لا تتجاوز الثلاثمئة مترٍ مربعٍ لتوزَّع بهذه الطريقة فيصبح بهذه السعه ولكل هذه الغايات مع توفير كامل الخصوصية لسكانه التي تتلاءم مع ثقافتهم ودينهم. أرى أن هذا البيت يعكس داخل ابن أبي عامر ويكشف كل ذواته من عالِم ومثقف وعسكري وسياسي ويفجر فسحات الأمل في كل من يراه ويملأه بالطموح كصاحبه، فنرى الشاعر تغنى حتى على قبره(4):

” آثاره تنبيك عن أخباره حتى كأنك بالعيون تراه

تالله لا يأتيك الزمان بمثله أبداً ولا يحمي الثغور سواه”.

         المراجع:

  1. عمر بن علي بن الفارض: الوافي بالوفيات، (بيروت،  دار إحياء التراث العربي، 2001م) جـ23،ص36،ط1.
  2. محمد عبدالله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، (القاهرة، مكتبة الخانجي، 1997 م)، جـ 1، 2، 5/ ط4.
  3. http://andalustoday.blogspot.com/2015/04/blog-post_29.html
  4. أحمد بن محمد المقري التلمساني: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، (بيروت، دار صادر،1968م) جـ 1،ص383، ط1.