باستخدام المواد المختلفة كالأرشيفات والأفلام والمطبوعات ، تبحث الفنانة آلاء يونس التي عُرفت بمشروعاتها البحثية المكثفة والمتصلة بتاريخ الوطن العربي الحديث عن حالات تنهار فيها الأحداث التاريخية والسياسية إلى أحداث شخصية، كأساس لممارستها الفنية، التي تشكل كل واحدة منها دراسة استقصائية معمّقة لهذه الأحداث.

تقول الفنانة : “البحث يتيح إجابات أكثر اتساعًا بالنسبة للأسئلة التي نحمل فضولًا عليها، ويربط الأحداث المتباعدة ببعضها، ويساعد في فهم التاريخ وكيف تتأثر الأحداث ببعضها البعض، وكيف نتقصى موقعنا ضمن هذه السرديات”

آلاء يونس فنانة معاصرة، حاصلة على شهادة البكالوريوس في الهندسة المعمارية من الجامعة الأردنية (1997)، ودرجة الماجستير في الأبحاث من غولدسميث/ جامعة لندن (2016). ولدت عام 1974 في مدينة الكويت، وهي تقيم حاليًا في عَمّان.

قامت الفنانة آلاء يونس بإثراءنا بالكثير من الإجابات وقدمت لنا خلاصة بعض تجاربها من خلال حوارنا معها..

تعتبر “دارة الفنون – مؤسسة خالد شومان” من أبرز المعالم الثقافية في عمّان، أخبرينا عن تجربتك في دارة الفنون من خلال المناصب التي شغلتيها في المؤسسة، وكيف أضافت هذه التجربة لكِ كفنانة.
 
كنت أدرس العمارة في الجامعة الأردنية عندما ظهر في رواق القسم ملصق ضخم لعمل مروان قصاب باشي «الواقف». ظهر الملصق مبكرا يحضر الجمهور لعودة الفنان إلى المدن العربية عبر معرض شخصي في دارة الفنون. ربما حمل الطلاب وأنا منهم نسخة من الملصق إلى مراسمنا، لكني لا أتذكر إذا زرت المعرض. لكني كنت احرص على حضور المحاضرات التي نظمتها شعبة المعماريين في نقابة المهندسين في الموقع الأثري بالدارة. انضممت إلى فريق الدارة كمدير مساعد عام ٢٠٠٦، ثم تدرجت في عملي لمنصب مدير بالوكالة ثم المدير الفني حتى نهاية عام ٢٠١٠. كانت فرصة مهمة للعمل مع فريق الدارة والتفكير الجماعي في برامجها والتعاون مع الفنانين الزوار في تنفيذ مشاريعهم وتحضير معارضهم وفي التفكير بتجربة زيارة المعارض من قبل الأطفال، وفي تطوير مشاريع مشتركة مع مؤسسات أخرى عربية وعالمية.

– كيف وظّفتِ دراستك للهندسة المعمارية في عملك الفني وكم ساهمت في تعزيز ممارستك الفنية؟ بالتأكيد لقد أثْرت المشاريع التي قمتي بالإشراف عليها تجربتك الفنية وأضافت شيئا لخبرتك، حدثينا عن أكثر المشاريع إثراءً وتأثيراً على تجربتك؟

تساعد العمارة في التفكير في الوظيفة وتحليل عناصر البحث وإعادة ربطها وفي تطويع الجماليات لتساعد الفكرة. عندما عرفت عن القاعة المغلقة للألعاب الرياضية في بغداد والأسماء التي تعلقت بتاريخ بناءها، بدت تلك القاعة أيضًا رمزًا للزمن الذي درست خلاله العمارة في الجامعة الأردنية. كانت الفترة ما بعد حرب الخليج الأولى وكان المشهد الفني في عمان يتغير بافتتاح المؤسسات الفنية مثل دارة الفنون ووصول فنانين عراقيين نشطوا العمل الثقافي المحلي. كذلك كانت تجارب المعماريين الذين درسنا أعمالهم تؤثر بنا بنفس الطريقة وتعدنا بممارسات مستقبلية للعمارة نافستها أسواق وتوجهات معمارية وفنية أخرى بعد التخرج. عندما أبحث في «خطة بغداد الكبرى» لا أبحث عن تاريخ معاصر لبغداد وعمارتها وفنها وسياستها فحسب، وإنما عن معاصرتي أنا لهذه التواريخ وموقعي فيها وتأثيرها علي، حتى لو كنت أعيش في عمان ولم أزر بغداد أبدًا.  ينطبق هذا الأمر على البحث الذي أجريته على وعود عبد الناصر، وعلى الثقافة التي تشكل وعينا بسبب نشأتنا على تنوعات محددة ومدروسة من المسلسلات العربية والذي يظهر في عملي «دراخما» الذي يصور مشاهد مختارة من مسلسلات مؤثرة صورت في استوديوهات عربية. هنا استخدمت أدواتي المعمارية للتفكير في عرض يعتمد على مجسمات مصغرة تصور هذه المشاهد.

عمل فني الاء يونس

عمل “دراخما”

 

– هل ترتبط أعمالك غالباً بتجاربك الشخصية والواقع الذي عايشته في فترات معينة من حياتك الشخصية؟

نعم، أهتم بالنظر إلى الطريقة التي تتحول بها التجارب والأحداث الجماعية إلى تجارب شخصية، وليس بالضرورة تجربتي أنا الشخصية وإن كانت حاضرة في معظم المشاريع التي عملت عليها.

 

– من أين أتى اسم العمل «دراخما»؟

يربط العمل بين تدهور العملات العربية وبين زمن إنتاج المسلسلات وأمكنتها. شهدت المسلسلات فترة أنتجت في استوديوهات في مدينة أثينا مما يعني أن طواقم إنتاج المسلسلات والممثلين سافروا للإقامة في المدينة أثناء تنفيذ العمل. كنت طفلة عندما سافرت مع عائلتي إلى أثينا وأقمنا بالصدفة في فندق برزيدنت الذي يقيم فيه الممثلون، وكنا نلتقيهم في بهو الفندق وقاعة الإفطار وغيرها. كانت العملة المستخدمة في اليونان هي الدراخما وكانت قيمتها منخفضة وبالتالي كان ثمن الأشياء يدفع بملايين الدراخما وكان هذا الأمر بحد ذاته مدهش بالنسبة لي. فكرت أن أسمي العمل دراخما على اسم أول عملة فهمت أنها تدهورت في قيمتها، ولشبه الكلمة بكلمة «دراما» والتي تستخدم أيضًا لوصف المسلسلات.

دراخما الاء يونس

جزء من العمل الفني “دراخما”

 

– حدّثينا عن مشروعك “كيف تَـ” ومن أين أتت فكرة المشروع..

«كيف تـ» هو مبادرة نشر مهتمة بتجارب النشر المستقل والنشر كممارسة فنية. أسست هذه المبادرة بالتعاون مع الفنانة مها مأمون عام ٢٠١٢، وفكرنا في الأصوات التي نحب أن نقرأ لها في ظل تحديات الوقت الذي نعيش فيه. كذلك فكرنا في توظيف شعبية كتب الأدلة للتعامل مع بعض احتياجات اليوم سواء كانت مهارات أو أدوات أو أفكار أو إدراكات أو مشاعر. تجمع هذه الكتب ما بين التقني والتأملي، بين التعليمي والفطري، وبين الحقيقي والخيالي.  أول إصدارات المشروع كان كتاب «كيف تختفي» للكاتب هيثم الورداني عام ٢٠١٣. اصداراتنا تضم كتاب «كيف تحاكي صوت الساحل باستخدام يدين وسجادة» (٢٠١٤) للفنان جودت إريك، «كيف تعرف ما الذي يجري حقًّا» (٢٠١٦) لفرانسيس ماكي، «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها» (٢٠١٦) لإيمان مرسال، «كيف تتهجى الصراع» (٢٠١٧) لنتاشا صدر حقيقيان، «كيف تتذكر أحلامك» (٢٠١٩) لعمرو عزت، و«كيف ترى أعمدة القصر كأنها النخيل» (٢٠١٩) لحسين ناصر الدين. عام ٢٠١٩، دعينا لتنظيم معرض فني في مركز بيروت للفن وفكرنا أن نستخدم هذه الفرصة للتوسع في بحث وعرض موضوع النشر المستقل، فخرج معرض «كيف تعاود الظهور: من بين أوراق النشر المستقل»، واستكملنا الفكرة في معرض «كيف تناور: في شكل النصوص وتدابير النشر» في معرض421 في أبو ظبي، ثم نسخة جديدة من معرض «كيف تعاود الظهور» في مؤسسة محمد وماهرة أبو غزالة في عمان افتتح في يناير ٢٠٢٠.  في كل نسخة من المعرض، قدمنا أكثر من أربعين مشاركة تنوعت بين الأعمال الفنية التي تتناول أو تحاول النشر، وأعمال الناشرين أو مختارات من أرشيفهم.

كيف تـ الاء يونس

سلسلة الكتب المنشورة في مشروع “كيف تـ”

 

– لاحظنا تركيزك على أهمية دور المرأة العربية من خلال مشاريعك الفنية التي تتبّعت قصصاً من الماضي مثل «مخطط بغداد الكبرى» و«نفرتيتي»، هل كان تهميش دور المرأة في هذه القصص سبباً أساسيا لاختياركِ إحياءها من خلال أعمالك؟

«نفرتيتي» هو اسم العمل وأيضًا اسم ماكينة خياطة من إنتاج المصانع الحربية بمصر، كانت تُباع بالأقساط للنساء لتمكنهن من العمل من منازلهن ودعم أسرهن ماديًّا. كانت الماكينة واحدة من منتجات وعد جمال عبد الناصر بإنتاج كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ. كذلك أهدت أم كلثوم ماكينات خياطة من المصانع الحربية إلى أسر الشهداء والمهجرين لمعونتهم بعد حرب ١٩٦٧ ودعماً للمجهود الحربي. اهتممت بنفرتيتي لأنها تمثل وعد الصناعة وتنوع شكل المجهود الحربي وكيف يشبه تقاعدها (أي توقف صناعتها) سياسات الإدارات التي جاءت بعد عبد الناصر من الانفتاح والاستيراد ومحدودية قدرة بعض المنتجات المحلية على مواكبة التطور لسبب أو آخر. في العمل الفني المكون أعرض خمسة ماكينات خياطة نفرتيتي إلى جانب فيديو يعرض بعضًا من قصتها من خلال محاورة، ليس مع نساء عملوا على هذه الآلة بل، مع رجال كانوا نتاج بيئتها. كنت مهتمة بالنظر إلى مُنْتجات المنتج، وعليه فقد تعاونت مع الكاتب معتز عطا الله على جمع تاريخ شفوي لمنتجات مصرية أخرى من زمن نفرتيتي. كان من المثير للاهتمام كيف تصبح هذه المنتجات شخصيات أساسية في تاريخ الأفراد الذين عاشوا معها.

الاء يونس

عمل “نفرتيتي”

عرضت عمل «مخطط بغداد الكبرى» لأول مرة عام ٢٠١٥ بعد بحث استمر خمس سنوات في قصة قاعة الألعاب المغلقة في بغداد والتي صممها المعماري لو كوربوزيه (ما بين ١٩٥٧ و١٩٦٥) لكنها بنيت عام ١٩٨٠ وسميت باسم الرئيس صدام حسين. كان البحث يحاول أن يفهم تفاصيل تغير المشاريع والمخططات الحضرية لبغداد التي أدت إلى تأخر بناء مشروع معماري حداثي كل هذا الوقت ونتج عن هذا التقصي خط زمني مفصل من الأحداث المتعلقة بالقاعة وما يوازيها من أحداث سياسية ومعمارية وفنية متعلقة بالنصب والمباني في المدينة سنة بسنة. كانت غالبية الشخصيات الرئيسية في القصص من الرجال (رؤساء جمهورية تدخلوا في المخططات الحضرية، معماريون موظفون في الدولة و/أو أصحاب مكاتب هندسية استلموا هذه الأعمال التطويرية، فنانون صمموا نصبًا في الفضاءات العامة وغيرهم). استقيت القصص من المواد المكتوبة ومن أرشيفات مختلفة ومن مقابلات، وفي تقصي سير الشخصيات. غلبت على المواد التي تشكل منها المشروع طابع الكتابة الشخصية وكان أغلب المؤلفين رجال. ما بين ٢٠١٥ و٢٠١٨، راجعت كل المواد التي استخدمتها في النسخة الأولى من العمل واطلعت على مواد جديدة وعملت مقابلات من جديد للتوسع في النظر إلى الحضور النسائي في هذه القصة، وعليه فقد تعلمت أشياء كثيرة من هذه المحاولات: كيف تختار بعض النساء تدوين تاريخهن أو عدم تدوينه، لم تظهر بعض المواد في الأرشيف ولا تظهر أخرى، كيف يمكننا قراءة مساهمة المرأة كعمليات إنتاجية وليس كروايات تاريخية، كيف يمكن أن نجد قطعًا من الأرشيف مخفي بين ما حملنه من أزمنتهن كطالبات و/أو معماريات و/أو زوجات و/أو أديبات و/أو فنانات وهكذا. سميت هذه النسخة من العمل «خطة بغداد الكبرى» (خطة وبغداد والكبرى كلها كلمات مؤنثة).

خطة بغداد الكبرى عمل فني

مشروع “خطة بغداد الكبرى”

 

– يتطلب إنتاج أعمالك الفنية الكثير من البحث والتنقيب للخروج بصورة متكاملة عن القصة، سواءاً بالبحث في الأرشيفات مثل الصور و المطبوعات أو الاتصال المباشر مع أبطال القصة وأحياناً روايات الأشخاص الذين شهدوا على هذه القصص.. حدّثينا عن مشاعرك خلال مرورك بهذه الرحلة في البحث..

تختلف التجربة من مشروع لآخر بالطبع، ولكن تشترك جميعها في أن البحث يتيح إجابات أكثر اتساعًا بالنسبة للأسئلة التي نحمل فضولًا عليها، ويربط الأحداث المتباعدة ببعضها، ويساعد في فهم التاريخ وكيف تتأثر الأحداث ببعضها البعض، وكيف نتقصى موقعنا ضمن هذه السرديات. في هذه العمليات تحد، كيف تحول هذه المواد الأرشيفية والمقابلات والتحليلات إلى أعمال فنية أو إلى مواد عرض تقدم للجمهور، وهنا تصبح العملية الفنية مرحلة أخرى من البحث في الشكل وفي تجريب اختيار والتعامل مع عناصر العمل والكتابة عنه.

بعض المواد الأرشيفية التي استخدمتها الفنانة في بحثها عن “خطة بغداد الكبرى”

 

– هل تكمن الصعوبة أو التحدي الأكبر في مرحلة البحث وجمع الحقائق، أم في تحويل نتاج هذا البحث إلى عمل فني ومادة عرض للجمهور؟

كل مرحلة لها صعوباتها وذلك بحسب توفر المعلومات أو المواد التي ترفد البحث. في كثير من الأحيان يبدو جمع أطراف القصة والمواد قد لا ينتهي أو لا يكتمل، مثلا لانقطاع الاتصال مع أصحاب العلاقة أو ضياع أرشيفهم أو غيره. استعمال البحث في صناعة عمل فني هو أيضا مسألة تحتاج إلى التجريب وكثير ما غيرت شكل العمل الفني وبعض عناصره بعد عرضه لأن من خلال عملية العرض وربما من الحديث مع الجمهور أحس أن على العمل أن يتخذ شكلا آخر أو حجما آخر وهكذا. المشاريع التي أقدمها كثيرة التفاصيل والجمهور عادة مهتم بسماع هذه التفاصيل وربطها بالمعرفة التي لديه وهذا دائمًا شيء جميل.

 

ماكنة “نفرتيتي”

 

عمل فني الاء يونس

عمل “مخطط بغداد الكبرى”

 

ala younes

عمل تركيبي للفنانة بعنوان “جنود من حديد” ويعاين العمل النضال التحرري من خلال انتاج مصغرات الجنود