ضيفنا الذي عمل بمجالات ووظائف عديدة -قد تكون بعيدة إلى حد ما عن الفن- لم يتمكن يوما من الهرب من الفنان في داخله، ليلازمه الفن ويعاود الظهور في حياته لنحظى نحن بفنان لعب دوراً مهماً في بناء وتعزيز الحركة الفنية بالاردن.

فاروق لمبز الذي رسم لسنوات طويلة طبيعة الأردن وحياته الاجتماعية، منحنا بعدها لسنوات طويلة أيضا مجموعة من الأعمال الحروفية بهوية عربية أصيلة أعادت طرح الخطوط العربية ببساطة وألق وبأسلوب فريد من نوعه، توصل له من خلال عمله كمصمم في  عالية – الملكية حالياً- ،هذه الوظيفة التي أتاحت له فرصاً عديدة أثرت ثقافته وخبراته وأحالته للفنان الذي هو عليه اليوم.

شاركونا الاطلاع على رحلة الفنان فاروق لمبز من موهبة كبيرة في طفولته إلى شغف كبير بالفن في شبابه .. نتعرف اليوم على أهم محطات حياته التي عمل بتفانٍ على توظيفها في فنه وإبداعه، يبدأ الحديث عن البدايات فيقول :-

منذ عُمر السادسة بدأت بالشخبطة، وبعدها بسنوات بدأت برسم ورود التقطها من حديقتنا وأضعها في ما يتوفر في المنزل من أوانٍ.

بداية الخمسينيات كان لأختي أميرة -رحمها الله-  دوراً بالانتباه على موهبتي والاهتمام بها، فصارت تشتري لي الألوان المائية والفراشي لتشجعني، كما لا يمكنني أن أغفل عن دور مدرستي التي كنت أرتادها في شارع السلط (مدرسة الأمير طلال) التي أرسلت لي العديد من أدوات الرسم كهدية بعد أن أُعجبوا برسمٍ كنت قد نقلته عن صورة لبطاقة بريدية أرسلها لنا أخي المهاجر للبرازيل. كما أذكر اهتمام مدرسة رغدان التي أرتدتها بوقت لاحق ودورها في ساعدتي على الاستمرار، حيث أذكر بأننا كنا قد أقمنا معرضاً وقد فزت في المركز الأول آنذاك، والسبب في ذلك هو أنني خرجت من دائرة راحتي ورسمي الاعتيادي واعتمدت على خيالي باتباع أسلوب بعيد عن الواقعية، على الرغم من جهلي التام -في ذلك الوقت- بأي من المدارس الفنية، إلا أنه كان تصرفاً عفوياً ساعدني على التعبير بصورة حقيقية عما أرغب بالتعبير عنه ولاقى إقبالا من قبل اللجنة والمتلقين لهذ العمل.

 

حدثنا أكثر عن تتمة قصة فاروق الطفل؟ كيف تطورت خلال المراهقة والشباب؟

بدأت بعمر مبكر في العمل في عالية/الخطوط الجوية الملكية الأردنية وكانت كمؤسسة مهتمة جدا بالفنون بشكل عام، حيث قامت -كمبادرة منها- بإقامة صالة عرض متكاملة للفنون بشكل عام والتي لم تكن متوفرة في ذلك الوقت، حيث كان الفنانين يلجأون إلى قاعات صغيرة في المراكز الثقافية الأجنبية بعمّان وغيرها من الصالات التابعة للفنادق الكبيرة والتي لم تكن مخصصة أصلاً لعرض الأعمال الفنية، وقد سميت هذه القاعة فيما بعد بجالريري عالية للفنون التشكيلية، وقد خدمت بدورها الحركية الفنية بالأردن لسنوات طوال.

 

     صور من حروفيات الفنان فاروق لمبز

(اضغط على الصور لمشاهدتها لحجم أكبر)

 

 

 

-ماذا عن الدراسة؟ هل كنت قد أنجزت أي شهادة مدرسية أو جامعية في ذلك الوقت؟

ليس بعد، كنت قد بدأت العمل قبل الانتهاء من الثانوية العامة، ومع انتهائي منها قضيت وقتا طويلا في حيرة من أمري حول اختيار اختصاص جامعي، وعلى الرغم من وعيي التام باهتمامي بالفنون إلا أنه لم يكن خياراً مطروحا بشكل جدي، فأنا ابن لرجل شركسي عسكري .. ولم أكن أنا فقط في هذا الوضع بل أعلم جيدا بأن خيار دراسة الفن لم يكن خياراً يسيراً إلا بوجود من يتفهم خيارنا هذا ويدعمه من العائلة.

 

 

وبماذا انتهت هذه الحيرة حول الاختصاص الجامعي؟

كان جميع أقراني جاهزين ومتوجهين لدراسة تخصصات مختلفة في جامعة دمشق كونها الخيار الأقرب من حيث المكان. عن نفسي.. لم تزدني خيارات أصدقائي سوى حيرة أكبر، لكنّي في الحقيقة شعرت بالامتنان لأحد هؤلاء الأصدقاء حين أثار انتباهي لنقطة مهمة خلال عزمي على تقديم طلباً للانضمام لسلاح الجو، فلفتني إلى أن الفنان في داخلي لم يكن ليرضى عن اختياري هذا وبأنني لن أجد السعادة وتحقيق الذات بهذا الخيار، وأنني لن أجد الوقت حتى لممارسة الرسم كهواية.

وعلى الرغم من ذلك وفي فوضى الخيارات المطروحة، اخترت اختصاص الحقوق كعدد كبير جدا ممن أخذوا هذا الخيار، والدليل على ذلك اكتظاظ قاعات التدريس بأعداد هائلة من الطلبة من كل أقطار الوطن العربي، مما دفعني لأن اختار أن أتمم دراستي الجامعية عن طريق المراسلة. خلال دراستي عملت كمحاسب في بنك عمّان والذي منحني هذا العمل فرصة للتنقل بين القدس ورام الله، وكنت محظوظا بوجود زميل لي أتشارك وإياه أفكاري وشغفي الخفي بالفن.

انشغلت جدا بالفن.. حتى أنّي بدأت بالإضافة إلى عملي بالبنك بالعمل بتصميم الإعلانات من خلال مكتب للإعلان في عمّان، إلى أن أتيحت فرصة عمل كمصمم إعلانات في الملكية فأسرعت بتقديم أوراقي وأعمالي الفنية فوراً لأعود من جديد للملكية بوظيفة أكثر ارتباطاً بالفن، في فترة من حياتي المهنية اعتبرها من أهم الفترات حيث لم يكن التصميم وحده هو فرصتي لأكون بقرب الفن، بل كنت أنتهز جميع الفرص المتاحة للسفر لأزور متاحف العالم ومعارضها.. اتأمل الأعمال عن قرب وأتمعنها بنفسي.. أشتري من الكتب ما يثري معلوماتي وثقافتي الفنية.

 

 

تفصيل من أحد أعمال الفنان

 

 

-هل روادتك فكرة العودة لدراسة الفن يوما؟

نعم، اعتقدت لفترة بأن جهودي في التعلم الذاتي لم تكن كافية، فتوجهت لمعهد الفنون بإدارة الصديق مهنا الدرة -رحمه الله- وقد كان المعهد جديد في وقتها. أذكر جيدا لحظة دخولي للمرة الأولى للمعهد، عندما رحب بي مهنا وأجلسني أمام الكانفس وعدة الرسم في القاعة التي سبقني فيها الطلبة برسم مزهرية أزهار معروضة أمامهم، خلال 5 دقائق رسمت العمل بعفوية وشغف مما دفع مهنا لمشاركة رسمي بإعجاب مع بقية الطلبة، شارحاً لهم بعض المفاهيم الفنية حول عملي كالتكوين والألوان وغيرها.. تلك المفاهيم التي لم أكن متعمدا لإظهارها في رسمي، إلا أنها ظهرت بعفوية..

تحمست للاستمرار في التعلم قبل أن يخيب أملي بسبب توقف المعهد عن العمل لاستعمال القاعات لغايات أخرى، مما دفعني لمحاولة التوجه لمعاهد أو مدارس أخرى إلا أنني لم ألمس أي إضافة لمهاراتي، الأمر الذي أعادني لاختيار التركيز على التعلم الذاتي والتركيز على عملي كمصمم والذي لعب دورا كبيرا في تطوير إمكانيات وتقنيات لاحقة قمت بتوظيفها في فني، كون العمل في التصميم في ذلك الوقت يختلف جذرياً عن العمل كمصمم في الوقت الحالي.

 

عمل لصديقه مهنا الدرة في منزله

 

هل بإمكانك الحديث أكثر حول آلية العمل كمصمم في ذلك الوقت؟

كما ذكرت مسبقا.. فقد كانت جميعها يدوية، أي أن كل تصميم يعتبر عمل فني متفرد بحد ذاته، بدأنا العمل بالإعلانات التي تُعرض في الجرائد ثم بالإعلانات التي تُعرض على شاشات التلفاز، والجزء الأكثر متعة بالنسبة لي هو أنني في وقت لاحق بدأت طبيعة عملي تتطلب مني المشاركة بمعارض دولية للتسويق للأردن سياحيا.

 

 

-كيف تصف تزامن الوظيفة والفن في تجربتك؟

على الرغم من كل الفرص التي أُتيحت لي خلال وظيفتي والتي ساعدتني كثيراً لتطوير إمكانياتي وثقافتي بالفن، إلا أنني كنت أُدرك بأن العمل بوظيفة بهذا العدد من الساعات له تأثير على مستقبلي كفنان، ولهذا استقلت من عملي بالملكية في عام 2004..  وأذكر جيدا شعوري في صباح أول يوم بعد تقديم استقالتي، حيث شعرت وكأنني قد ولدت في هذا الصباح من جديد وشعرت بحرية كبيرة، وبالدليل على ذلك بأنني أنجزت في أول أربع سنوات بعد استقالتي أعمالا فنية تُعادل في كمها ونوعها ما أنجزته خلال 34 سنة عمل سابقة.

 

 

-لنتحدث أكثر عن نتاجك الفني، وكيف تطور من رسم المشاهد الطبيعية في حياتك إلى أعمال الحروفيات التي يراها محبين عملك مؤخرا؟

بدأت الرسم بواقعية كبيرة، واهتممت بالمواضيع التي ترتبط بالبيئة الأردنية من طبيعة أو حياة اجتماعية أو غيرها..  وجاء اهتمامي بهذه المواضيع -وكما ذكرت سابقا- بسبب طبيعة واحدة من مهامي الوظيفية التي كانت تتطلب مني مرافقة المصورين لتصوير المشاهد الطبيعية والمناطق الأثرية لغايات تصميم منشوارت التسويق للأردن، فكنت ارسم خلال هذه المشاهد أو استوحي منها، كبائع بطيخ متجول.. مظاهر الحياة البدوية أو القروية.. طريقة بناء البيوت والحقول والحصادات اللواتي يعملن بأيديهن. وقد ساعدتني ذاكرتي بالاحتفاظ بكل ما التقطته عيني من مشاهد، قد لا تكون هذه أعمالي الأكثر شهرة إلا أنني أنتجت العدد الكبير منها.

 

-هل ما زلت ترسم هذه الأعمال التوثيقية إلى اليوم؟

في الحقيقة توقفت عن رسمها لفترة طويلة..  منذ عام 1994 تقريبا،  إلا أنني وخلال فترة الحجر المنزلي الأخيرة  قد بدأت من جديد باللجوء إلى هذه المواضيع، أعتقد بأن السبب في ذلك هو سهولة هذا النوع من العمل وخفته على نفس الفنان هي ما دفعني للجوء لهذا العمل من جديد، وما زلت مستمر بالطبع بالعمل على أعمال الحروفيات ورسم الخط.

 

مجموعة من أعمال المشاهد الطبيعية التي أنجزها الفنان خلال العام 2020م

(اضغط على الصور لمشاهدتها بحجم أكبر)

 

 

 

 

كيف نشأ عملك المتعلق بالحروف والخط؟ وكيف تطور؟

عادة ما أتلقى هذا السؤال كثيرا.. قد تحولت للحروف العربية في عام 1996م تقريبا، وأعتقد بأنني انتقلت لها بعد شعور بالإشباع من رسم المشاهد الطبيعية والحياتية، ومن الجدير بالذكر بأنني قد انقطعت عن الرسم انقطاعاً تاماً لمدة 5 سنوات قبل انتقالي لرسم الحروف والخط. قد كنت خلال هذه الفترة أُفكر بالعودة للرسم بأسلوب ومواضيع ومواد جديدة تثير حسي الفني من جديد.

لم أرغب بالتوجه بشكل مباشر لأي من المدارس الفنية الحديثة لأنّي أعلم بأن ذلك لن يجعلني سوى مُقلد لغيري ولن يمنحني المساحة لإضافة أي جديد من خلال عملي، كنت أعي جيدا بأن ثقافة الفنان وعلاقته بتراثه هي مصدر أساسي لإبداعه.. وهي في حالتي التراث الفني العربي الإسلامي والذي أعتبره من أغنى الموارد التي يعتمدها الكثير من الفنانين في العالمين العربي والإسلامي، وأرى بأن ظهور هذا التراث في الأعمال الفنية يتفاوت من فنان لآخر، ولا يمكن لأي فنان أن يتجاوز علاقتهما الوثيقة بالبيئة والواقع الاجتماعي والعقائدي ولكونها موضوعاً يرفد الفنان بما يحتاجه للتعبير عن كل من البعد الزماني والمكاني والسكون والحركة.

وما أود توضيحه هُنا بأن أعمالي ليست لنقل مفردات هذا التراث بل لتكريمه وإعطائه قيمته الحقيقية ونقله وتقديمه للجيل الحالي والقادم بجمالية وإحساس، لهذا قد تبنيت من الخطوط العربية الأساسية السبعة خط الثُلث الظاهر بحركته وانسيابيته المميزة في أغلب أعمالي الحروفية.

 

 

 

 

 

-هل درست الخط العربي؟

أبداً .. في الواقع حاولت أن أكون خطاطاً لكنّي لم اتمكن من ذلك، حيث توجد فروقات عديدة بين الخطاط والرسام.. فأساس عمل الرسام يده المتحركة على عكس الخطاط والتي تطلب طبيعة عمله ثباتاً وتركيزاً عالياً.

بعد ممارسة الرسم لسنين لم يكن من السهل عليّ تمرين عضلات يدي كخطاط، وما قمت به هو أنني سخرت مهارتي لرسم الخط لذلك لا أدّعي أو أصف العمل بأنه قد تمت كتابته بخط معين .. بل أصفه بقول بأن هذا الخط من رسمي.

 

-من رسم الخط من قبلك؟ وبمن تأثرت؟

في الوقت الذي بدأت به كانت فكرة رسم الخط جديدة نسبياً، ولكن أول من استعمل الخط العربي في اللوحة الحديثة هم فناني العراق في العشرينيات.  معظم من درسوا بالعراق تأثروا بالفن العراقي، فقد استعمل العراقيين الخط بطريقة فعالة جدا ومميزة تخدم العمل، بعكس العديد ممن يدعي تبنيه الخط والحروفية في الأعمال المعاصرة.

 

 

-كيف خدمت تجرتبك السابقة في الرسم عملك الحالي في الحروفيات؟

كان يعنيني جدا أن لا يكون عملي مجرد رسم لأشكال الحروف، بل كنت مهتماً –وعلى الرغم من كون طريقة عملي جديدة- بأن يظهر للمتلقي بأن هذا العمل يتجاوز مجرد كونه رسم للحروف بمجموعة من الألوان، بل يمكنك أن ترى ما وراءها من حكايا وقصص لأعمال فنية سبقتها مستوحاة من حياة الناس ومن الطبيعة ومن غيرها.

 

 

 

– هل تخطط مُسبقا لكل عمل ؟

ليس تماما، لا أخطط كثيراً  قبل العمل، إنما العمل يبني نفسه بنفسه بألوانه وخطوطه، فطريقة العمل نفسها والتي تعتبر مبتكرة حيث لم يستخدمها فنان مسبقا – حسب معرفتي- وهي الخط بتقنية الضغط.

 

-هل بإمكانك التوضيح أكثر حول تقنية وطريقة العمل؟

ارسم الخطوط وأقصها على ورق خاص بسماكة كبيرة، وطريقة القص تساعدني على ضغط مجموعات أقاصيص الورق واحدة تلو الأخرى.. طبقة وراء طبقة أتعامل معها كما يتم التعامل مع طباعة الزينك على سبيل المثال، ولهذا عادة ما يظن متلقي العمل بأن الأدوات والطريقة هي طباعة على زينك.

بإمكاني القول بأن خبرتي السابقة كمصمم لها الأثر الأكبر على تطوير هذه الطريقة الفريدة، حتى أنني ما زلت إلى اليوم مستمر بالعمل اليدوي بعد أن أقوم بتكبير النصوص بالحجم الذي أرغب بإنتاج العمل به.

 

بعض الصور التي توضح مرحلة من العمل أثناء التنفيذ:-

 

 

 

بعد أن يحصل الفنان على حروفه بالحجم المناسب وقبل قصها بدقة عالية، يقوم بإلصاقها على ورق بسماكة 400 غم، ليبدو الحرف بارز/نافر عن السطح ويتم ضغطه لاحقا لتُنتج لنا هذا العمل اليدوي الذي يمر بمراحل عديدة قبل تحوله لشكله النهائي كأحد أعمال فاروق لمبز.

 

 

 

المزيد من صور لأعمال الفنان في سنوات مختلفة:-

 

عمل من العام 2008 من مجموعة المتخف الوطن الأردني

 

عمل من العام 2008 من مجموعة المتحف الوطني الأردني

 

عمل مائي – 1999م

 

 

فاروق لمبز

عمل مائي – 1999م