دائماً ما كانت هناك صعوبة في تحديد مفهوم الفن لدى الكتّاب والنّقاد ، وربما كانت ناشئة عن أننا أمام وجه من أوجه النشاط الإنساني الذي لا يخضع للأحكام المطلقة ولا يعرفها . فليس بين النشاط الإنساني نشاط أسرع في التطور ، وأمضى في الحركة ، وأبعد عن الثبات والجمود من النشاط الفني .
وقد استعان الكاتب “رمضان الصباغ” في تحديد معنى الفن في كتابه “جماليات الفن : الإطار الأخلاقي والإجتماعي” بمحاولة استكشاف المعنى من خلال اللغة ، قائلاً : “لعل ذلك يكون أحد السبل التي تجعلنا ندرك المعاني التي يتخذها الفن” .
في العربية : الفن بالمعنى العام هو جملة من القواعد المتبعة لتحصيل غاية معينة ، جمالاً كانت أو خيرًا ، أو منفعة ، فإذا كانت هذه الغاية هي تحقيق الجمال سمي بالفن الجميل ، وإذا كانت تحقيق الخير سمي بفن الأخلاق ، وإذا كانت الغاية هي تحقيق المنفعة سمي الفن بفن الصناعة .

وقد لاحظ الكاتب من هذا المعنى أن كلمة فن يختلط فيها معنى الجمال ، بالأخلاق ، بالحرفة ، ولا يحددها سوى الغاية المنوطة بها .

ومن الجدير بالذكر بأن هناك تباين كبير في الآراء حول معنى الفن وماهيته في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر ، بين آراء تجعل من الفن نشاطًا خاصًا ، ونمطًا متميزًا من أنماط الفعل الإنساني يستقل عن غيره وبين آراء تخلط بين الفن وأنشطة إنسانية أخرى .
وقد عبر ” شوبنهاور ” عن تصوره للفن وعلاقته بالحرية حين قرر بأن الفن ” هو ما يحررنا من العبودية ” ، بل أن سموه يأتي من سمو تعبيره عن الحرية ، وجمال شيء ما إنما يقوم فقط في كونه تعبيرًا عن الفكرة ، أو النوع ، أو الإرادة في لحظة من لحظات تجسيدها .

يوشك عمر الفن أن يكون مساويًا لعمر الإنسان ، فقد وجِد الفن مرتبطًا بالعمل وممارسًا خلال حياة الإنسان اليومية ، حيث لا انفصال بين ما هو “جميل” وما هو “نافع” بل ولم يكن هذا التمييز قد طرح بعد .
ولكن مع تطور الإنسان ، وتباين حاجاته حدث تحول في علاقة الإنسان بالفن ، وظهرت مشكلة علاقة الفن بجوانب الحياة الأخرى ، ومنها علاقة الفن بالأخلاق .
ويتضح من خلال عرض مشكلة العلاقة بين الفن والأخلاق أنه يوجد نزاع جوهري بين ما تتطلبه الأخلاق وما يتطلبه الفن .. فالأخلاق تصر على الارتباط بالخبرات ، بينما يصر الفن على الاستقلال الذاتي لكل تجربة خاصة .
والإنسان الأخلاقي يتفحص العمل المعطى في علاقته بالأفعال الأخرى ، بينما الإنسان الجمالي -المهتم بالجمال- يغرق نفسه في التجربة المباشرة . والأخلاق تصر على عدم انتهاك حرمة الإنسان ، أما الفن فيؤكد على قدسية التجربة..
والأخلاق تجعل الحياة مستقيمة ، بينما يجعلها الفن عاطفية .. تتحدث الأخلاق عن الاهتمام بالكل ، بينما يهتم الفن بالجزء . فبدون الضمير يصير الإنسان مجرد سلسلة من الخبرات غير المترابطة ، وبدون الفن تكون الحياة نموذجًا أجزاؤه غير متسقة مع بعضها تماما في علاقتها بعضها ، وفي علاقاتها الداخلية أيضا .

وفي هذا الخصوص نذكر ما كتبه الناقد الإنجليزي الرائد في العصر الفيكتوري وكذلك الفنان والمفكر الإجتماعي البارز “جون رسكين John Ruskin” في بداية حديثه عن علاقة الفن بالأخلاق في كتابه “محاضرات في الفن” :
“يجب أن يكون لديك الحالة الأخلاقية الصحيحة أولاً ، أو لا يمكِنكَ امتلاك الفن. ولكن عندما تحصل على الفن ، فإن نشاطه المنعكس يعزز ويكمل الحالة الأخلاقية التي نشأت عنها ، وقبل كل شيء ، فإنه ينقل البهجة إلى عقول أخرى لديها هذه الحالة الأخلاقية أيضا. ”

إذن فالأخلاق والفن عند رسكين شيئان يكمل بعضهما الآخر بل ويعزز الفن الحالة الأخلاقية لدى الفنان ..

ومن الجدير بالذكر هو الموقف المتشدد من جهة الأخلاقيين في تعبيرهم عن آرائهم في ربط الجمال بالأخلاق . فنجد من يرى بأنه ” يبدو أن لا شيء أوضح من المطالبة بأن يكون الفن أخلاقيًا وأن تكون مهمة الناقد الأولى هي إصدار أحكام على الأعمال الأدبية ( واللوحات وحتى الموسيقى) على أساس القيمة الأخلاقية للنتاج الفني والأدبي ” .
بل والقول بأن أي وسيلة ذات طابع فني لا تعتبر وسيلة صالحة إلا إذا كانت ذات أثر أخلاقي إيجابي واضح ، وكانت تقدم أعمالا ونماذج صالحة ومناسبة للاقتداء بها ومحاكاتها . . . وتقدم الرؤيا التي تعبر عن المحبة والخير ، فالفن الصادق هو أخلاقي بطبيعته ” .

وإزاء هذا التشدد في النظر للفن فإن هناك من يرى أن الحياة ” يجب أن تفسح مكانًا لكل من الفن والأخلاق ، فيجب أن يكون الإنسان وحدة ، ويجب أن يحتوى شيئًا ما بداخل هذه الوحدة . ومع ذلك فإنه رغم الإنتقادات التي يمكن أن توجه إلى النظريات الأخلاقية فإن الفن – في رأى البعض – رغم ذلك يجعلنا أناسًا أفضل ، ويهذب مشاعرنا ويجعلنا أقل عنفًا وأكثر إنسانية .

المراجع :

  • Lectures in Art , John Ruskin , 1887.
  • جماليات الفن : الإطار الأخلاقي والإجتماعي ، رمضان الصباغ