ظهر عصر الباروك Baroque Period في الثقافة الغربية والفن والموسيقى والأدب، استمر من أوائل القرن السابع عشر إلى منتصف القرن الثامن عشر (17th– mid-18th century). وعكست الفنون في تلك المرحلة التوترات الموجودة في المجتمع الأوروبي، حيث عاشت فترة من التحولات الاجتماعية والسياسية والإصلاحات الدينية. وقد تميزت الفنون آنذاك بالواقعية والتفاصيل الغنية واستمر استخدام التقنيات المتعارف عليها من عصر النهضة (Renaissance Period)؛ مثل التشياروسكورو Chiaroscuro والسفوماتو Sfumato والامباستو Impasto، لإبراز الحركة والعاطفة وتمثيلها بحيوية وأسلوب يعكس الواقع بشكل أكثر انفعالية . واستمر كذلك بحث فنانين الباروك بمادة وسيط الزيت واختبار احتمالات تطبيقه، كما اهتموا بتطوير تقنيات تساعد على نقل ديناميكة الواقع وتجسيده بطابع ثلاثي الأبعاد على الأسطح ثنائية الأبعاد، وخلق وهم بالبعد والعمق عن طريق تدرّجات اللون والإضاءات الدرامية واللعب بأبعاد الشكل حسب اتجاه منظوره مما يطفي بعدًا ثالثًا وانبثاقًا للعناصر سواء باتّجاه الناظر أو نحو عمق اللوحة Foreshortening Technique.
كنت قد تناولت في مقالتي السابقة أساليب وتقنيات الدمج واستعمال الفرشاة بالرسم من العهد البيزنطي وحتى القرن السادس عشر، ونتوسع اليوم بالحديث عن مرحلة عصر الباروك كتتمة لموضوعنا السابق. فما هي سمات هذه المرحلة؟ وما في المواد والتقنيات الفنية فيها؟

Peter Paul Rubens, Prometheus Bound, 1611-1618.v
كان الفنان البلجيكي بيتر بول روبنز Peter Paul Rubens (1577-1640) أول من استخدم مادة التربنتاين Turpentine لتخفيف ألوانه وتطبيقها بشكل أكثر سلاسة وديناميكية على الأسطح، حيث ساعده تكنيك تخفيف اللون على إيجاد وسيلة اقتصادية تخدم طريقته البنائية والتحاورية بالرسم. في بعض أعماله كان يبدأ بخلفية معتمة تمثل مناطق الظل ثم يضيف أماكن الإنارة بكثافات مختلفة حسب شدّة الضوء كما في لوحة Two Satyrs. يستخدم روبنز Rubens الخطوط وتباين الدرجات للتمييز بين العناصر في أعماله، وغالبًا ما يستخدم درجة البني المحروق Burnt Umber في الفصل بين العناصر وتحديد الأشكال، ولعل استخدامه للخط وأساليب التهشير Hatching/Crosshatching في اللوحات الزيتية بسبب تأثره بتقنيّات الطباعة مثل الـ Wood-Print التي اشتهرت عند فنانين تأثر بهم روبنز Rubens مثل ألبرخت دورير Albrecht Dürer وغيره. كما كان غالبًا ما يقوم برسومات تخطيطه ودراسات للتكوين باستخدام الحبر البني وتدرجاته brown wash with brown ink، حيث تعلّم هذه التقنية خلال فترة إقامته في إيطاليا 1600-1608 (Zhou، 2021).

Peter Paul Rubens, Two Satyrs, 1618-1619 oil on canvas.
إن الطابع العام لأعمال روبنز Rubens يوحي بأنه كان على حوار فوري ومباشر مع المشاهد التي يمثلها، كما يُترجم هذا الحوار بالملامس والكثافات والضربات المتنوعة التي يطبقها بفرشاته، وقدرته على نقل نبض العناصر وديناميكيتها والتعبير عن تفاصيل وخصوصية العناصر بخفه تعبيرية تعطي الناظر شعور بالرضى يتخطى المستوى المادي لطبيعة الواقع.

Sir Peter Paul Rubens, A Study of a Head (Saint Ambrose)
وقد ألهم تصوير روبنز Rubens للشخوص وملامس الجسد وتفاعله مع فضاءات التكوين العديد من الفناين التعبيريين والمعاصرين، حيث عبر عن كتلة الأجسام وماديتها وحضورها في حيّز المساحة باستخدام الضربات المتنوعة والحرة وتدرجات لونية تُغني الإحساس بآدمية الشخوص وتلتقط منحنيات وخطوط الجسد ببراعة، ولعل ديناميكة وإيمائية ضربات روبنز Rubens في تمثيل الأجساد ألهمت الفنانة سيسلي بارون Cecily Brown بتأكيدها قدرة ضربات الفرشاة على التقاط الجانب العفوي والتلقائي والإيمائي للموضوع، كما يظهر تأثير روبنز Rubens وقدرته على تجسيد وزن الكتلة مع الحفاظ على حرية تفاعلها بالفضاء جليّ في أعمال المعاصر جون كارن John Currin.

Perseus Liberating Andromeda (1639–40). Oil on canvas, 265 x 160 cm

Cecily Brown, Where are they now, 2013

John Currin, The Red Shoe, 2016
استخدم الرسام الإسباني دييغو فيلاسكيز Diego Velázquez (1599-1660) العديد من التقنيات والأساليب المتنوعة التي ساهمت في إضفاء واقعية حيوية في لوحاته، واشتهر بقدرته على اختزال العناصر والتعبير عنها بضربات حرة حسب طبيعية الخامة التي يمثلها، فاستطاع نقل الواقع بتفاصيله بحرية واستقلالية وحضور قوي لإمتيازات وسيط الألوان الزيتية من خفة ومطاوعة من جهة وكثافة وبناء من جهة أخرى، حيث ميّز بين الملامس المختلفة للأنسجة والأسطح والتقط الفروق الدقيقة بالإضاءات والظلال واستخدم تقنية السفوماتو Sfumato لتحقيق انتقالات سلسة في التدرجات اللونية الأمر الذي يعطي وهم بالعد والعمق بالمشاهد، كما كان فيلاسكيز Velázquez يستخدم تقنية التشياروسكورو Chiaroscuro بطريقة فعّالة لخلق جو مسرحي ودرامي لأعماله ولتأكيد الطبيعة ثلاثية الأبعاد للأجسام والعناصر داخل فضاء اللوحة.

Diego Velázquez, oil on canvas, 140 x 120 cm (1650), Galleria Doria Pamphilj, Rome, Italy
إن فنانين مثل روبنز Rubens و فيلاسكيز Velázquez والهولندي فرانز هالس Franz Hals (1582-1666) استخدموا أسلوب البرافورا Bravura وهي ضربة فرشاة جريئة معبرة تختزل روح الموضوع وتضفي نوع من الحيوية، والعفوية، والحرية التعبيرية. كانت ضربات فرشاة هالس Hals ديناميكية تلتقط جوهر وشخصية موضوعاته وتلتقط حيوية وفورية صوره ومشاهده الفنية خصوصًا في أعماله المتأخره.

Franz Halz, Adriaen van Ostade, 1646/1648, oil on canvas
كما تعمد هالس Hals والهولندي ريمبرانت Rembrandt (1606-1669) ترك الضربات واضحه وبدون دمج وباتجاهات مختلفة، حيث كانت تخدم ملمس وخصوصية الملامس سواء من أقمشه وجواهر وبشرة وغيرها، وتعرف هذه الضربات باسم directional brushwork (بوريد Boyred، 2018).

Rembrandt, portrait of the artist, 1665
تميّزت أعمال ريمبرانت Rembrandt بأسطحها النافره والغنية بالملامس، وأضافت تقنية الامباستو Impasto إحساسًا بمادية الطلاء وإثبات وجوده الفيزيائي وتناغمه مع الخامات التي أتقن ريمبرانت Rembrandt التحاور معها والتعبير عن شخصيتها ضمن إطار العناصر المميزة لوسيط الزيت.
إن المُشاهد يستطيع تتبع أثر ضربات الفرشاة في أعماله واتجاهها وديناميكتها مما يخلق تجربة فريدة بالإحساس بالوجود المادي لخامة الزيت وفعل الرسم ودورهم في بناء الشكل، ولعل هذه التقنيات ألهمت فنانين معاصرين أمثال جاكسون بولوك Jackson Pollock وفرانز كلاين Franz Kline واهتمامهم بمادية الطلاء ونقل الإحساس بفعل الرسم للمشاهد.

Rembrandt Van Rijn (1606 -1669)
وفي لوحة “Saskia van Uylenburgh in Arcadian Costume” يصور ريمبرانت Rembrandt زوجته ساسكيا Saskia كفلورا Flora آلهة الورد والربيع اليونانية؛ ببلاغة تصويرية تعكس الجانب الأنثوي والرقيق للموضوع، وبعبقرية بنائية للضوء؛ بوضع طبقات إضاة كثيفة فوق الخلفية المعتمة واستخدامه للطبقات المخففه من اللون Glazing للحفاظ على نتوء الضربات ونضارة اللون (artyfactory, 2022).

Saskia van Uylenburgh in Arcadian Costume, 1635 oil on canvas