يُعتبر فن الشارع واحدًا من أكثر الفنون اتصالًا بالواقع وتمثيلًا له، وقد استمد اسمه مباشرة من كوّنه مُعبرًا صريحًا وصادقًا عن نبض الشارع. ولفن الشارع أشكالًا عديدة، فقد يكون رقصًا شعبيًا أو موسيقى تُعزف بعفوية في شوارع المدينة، أو قد يكون فنًا أدائيًا من نوع آخر كمسرح تفاعلي مثلًا. إلا أن الأكثر شيوعًا في بلدنا هو فن الشارع البصري الذي يعتمد فيه الفنان على الرسم والجداريات والمُلصقات كأساس لإيصال رسالته الفنية.
قد بدأ هذا الفن بالظهور في بداية الخمسينيات في أوروبا وأمريكا، ولم يكن رواده فقط فنانو بلا دراسة أكاديمية -كما يُشاع عنه- بل كان له ممارسين من خلفيات فنية أكاديمية بسنوات من التدريب والممارسة.
في هذا المقال نستند إلى بحث قامت به الباحثة المصرية “صافيناز نجيب” تسلط الضوء فيه على فن الشوارع في مصر وتأثره في الأحداث السياسية في الفترة ما بين ٢٠١١-٢٠١٥ تقريبًا(التي عُرفت بالربيع العربي قي ذلك الوقت) حمل معه العديد من آمال التغيير والتجديد وأحاط بالعديد من التابوهات والشخصيات السياسية، وبالطبع مع كل التغيرات السياسية والاجتماعية في تلك الفترة لم يكن للفنان المصري خيارًا سوى مواكبة الشارع بالتعبير عن الرفض والتمرد، والحماس للتغير والتجدد، وربما التعبير عن الإحباطات أحيانًا. والمتلقي بدوره لم يجد خيارًا سوى التفاعل مع أعمال الشارع هذه سواءً أن دفعه حماسه في ذلك -كونها معبرًا أساسيًا عمّا يجول في خاطره- أو فُرضت عليه -كونها تقتحم ناظريه على كل جدار وبناية في مدينته- وتعتبر هذه واحدة من سمات أعمال الشارع فهي غير محدودة في مكان معين، حيث يمكن رسمها في أي مكان يراه الفنان يخدم مضمون العمل، فيُمكن أن تكون على جدار ثابت أو على أسطح متحركة كالشاحنات أو وسائل النقل العام، وبحركتها هذه فهي لا تُعزز فرصة انتشارها وتناقلها بين أبناء المجتمع الواحد فحسب، بل تُسرع انتشارها بين الثقافات والمجتمعات المجاورة، وانتقال الثورات العربية من بلد إلى آخر مؤشر مباشر على الدور الذي يلعبه هذا النوع من الفنون.
يستوحي فن الشارع عادةً محتواه من أنواع متعددة من الترجمات، فترى الفنان يقوم بإعادة صياغة مواضيع مجتمعية معينة وطرحها من جديد، أو يقوم بترجمة محتوى فني من لغة إلى لغة، أو -الشكل الأكثر شيوعا- ترجمة مضمون الرسالة من نص (شعر/ قول مأثور/مثل شعبي ..) إلى صورة بصرية، وهذا الشكل قد ظهر جليًا في الشارع المصري خلال الأحداث السياسية، والذي سيتم الإشارة إليه من خلال بعض الأمثلة في هذا المقال.
فن الشوارع في مصر
لم يبدأ فن الشارع في مصر مع بدء النشاط السياسي، بل قد كان ظاهرًا من قبل بعض المنطاق الشعبية الفقيرة، ولكنه كان يحمل صورة تجارية أو دينية في الغالب، فمضمون الرسم كان يقتصر على التسويق للمنتجات والمحال الشعبية، أو يُعبر عن رموز دينية كالحج والذِكر وما يرتبط بها.
وتوضح الصورة التالية مشهد خارجي لمحل شعبي لبيع الدواجن.

عمل بالقاهرة-2012 صورة: صافيناز نجيب
اختيار المكان وتأثر الموضوعات بالأحداث
شارع “محمد محمود” هو الشارع مقابل لميدان التحرير الذي شهد اشتباكات عنيفة بين المتظاهرين والشرطة، ليكتسب المكان معنى سياسي ويكون مُحفز للعديد من الفنانين للتعبير من خلاله وما يجاوره من شوارع وأحياء، وما يُميز هذا الشارع هو أنه -ولكثرة الفنون فيه- تتداخل فيه الأعمال، فيُصبح بعضها خلفية لعمل آخر ويكون بعضها جزءًا من الهتافات والحدث السياسي نفسه، بحيث يُظهر الهتاف كعمل فني أدائي بحد ذاته، والأعمال البصرية خلفية متماشية ومكملة لهذا العمل.
نرفق أمثلة على المزيد من الأعمال الفنية:-
– فنان الشارع باسمه المستعار “التنين” عبّر عن هتافات الشارع باسقاط النظام من خلال تحويل رقعة الشطرنج إلى رموز تكاد تكون واضحة بسهولة للناظر لها، حيث لوَن الرُقع السوداء بالأحمر للإشارة إلى دماء الشهداء، بالإضافة إلى تصوير عناصر اللعبة كالشعب يقف مُترصدا للملك وكبار الحُكام في الجهة المقابلة، إلا أنه قام بإعادة إنتاجه والتعديل عليه لاحقا بما يتناسب مع شعوره بالإحباط وعد تحقق الآمال بالتغير، ليظهر بالشكل التالي.
– الفنانة “بهية شهاب” بعبارة الرفض القاطع “لا وألف لا” كانت بهية قد نفذت هذا العمل على جدار في القاهرة، وتصف علمها بالقول بأنه عند رفض جميع الصور النمطية التي تُفرض عليك، وكل ما يُحاول تأطيرك وتحديدك في هذا العالم، عندما ترفض كل جوانب واقعك وخياراتك السياسية المتاحة، وعندما ترفض الانصياع للغرب وفي الوقت ذاته ترفض رجعية مجتمعك كذلك، فعندها الألف “لا” ليست كافية. وعمل آخر يُعبر عن حادثة بحد معينة ذاتها، وهي حادثة الشابة المُحجبة التي تمت تعريتها وضربها في الشارع من قِبل الشرطة.
الصورة المرفقة توضح مجموعة أعمال بهية على الجدار.
وفي عمل آخر لشهاب، قامت بترجمة عبارة للكاتب “بابلو نيرودا” :-
“يمكنك أن تدهس الورود، لكن لا تسطيع أن تؤخر الربيع”
– أما العمل القادم هو عمل للفنان “عُمر فتحي” والذي يُعبر بوضوح عن التطور السياسي ورفض الخيارات السياسة المُتاحة -في توافق مع ما ذكرته زميلته بهية شهاب مُسبقًا- إلا أن هذا العمل قد حمل أشكالًا متعددة قام الفنان بتطويرها مع تغير الاختيارات والأحداث السياسية. وقد استعمل أبياتًا شعرية باللهجة المصرية المحكية:
يا نظام خايف من فرشة وقلم ظلمت وبتدوس ع اللي اتظلم
لو كنت ماشي بالسليم ما كنت خفت من اللي اترسم
آخرك تحارب الحيطان تتشطر ع الخطوط والألوان
بدأت الأحداث بالتسارع في ٢٠١٣ وما بعدها، بدأت التغيرات العديدة تطال هؤلاء الفنانين كذلك، فالحد من القدرة على التعبير باتت أكثر وضوحًا، حتى أن عددًا من الفنانين والنُشطاء قد تم اعتقالهم، وفُرض على بعضهم السفر قسرًا بعد أن حازوا على شُهرة واسعة، وهم يعملون الآن في مُدن وبلدان أخرى، والبعض الآخر قد قامت الحكومات بشكل أو بآخر بمحاولة احتوائهم، حيث يتم عقد مهرجانات تخضع لشروط معينة ،يقومون بالمشاركة بها لتقوم الدولة بإعطاء انطباع مبطن وغير حقيقي حول رفع سقف حرية التعبير لهم. ومع جميع هذه المحاولات، استمر فن الشارع بالظهور هنا وهناك، وقد كان يوثق حالة الإحباط التي مر بها الشارع المصري من عدم تحقق ما كان يصبو إليه كاملًا. كعمل الفنان Keizer “فاكر بكرى اللي ماجاش”.
وعمل آخر من أهم الأعمال، على جدار في الجامعة الأمريكية في القاهرة “طفي النور يا بهية” وهي إحدى عبارات أغنية الفنان والمؤلف المصري “محمد منير” والتي تحمل بدوّرها رسالة سياسية هي كذلك.
في نهاية المقال، لا يسعنا سوى الثناء على هذا الدور المُبهر الذي لعبه فنان الشارع في توثيق الأحداث السياسية في مصر كما يفعل في كل مكان وزمان آخر، ومن الجدير بالذكر بأنه لم يلعب دورًا في التوثيق فقط بل في الدعوة المباشرة للجميع لزيادة الوعي والمشاركة والإطلاع على الوضع السياسي وما يرتبط به من تأثيرات اجتماعية وإنسانية، أضف إلى ذلك كله دور المتلقي المهم جدًا في تفسير هذه الأعمال وإضفاء رأيه لها، مما يجعلها تُمثل أكثر من رأي أو توجه واحد، لتتسع وتصل عبر مواقع التواصل الاجتماعي لدوائر أكبر لربما تلعب دورًا في تشتت معناها أحيانًا، إلا أنها تبقى بلا شك محافظة على قوتها وعاطفية رسالتها وتأثيرها.
كُتب هذا المقال بالإستناد إلى بحث الباحثة المصرية “صافيناز نجيب” -جامعة أوسلو بإمكانك قراءة البحث كاملًا من هنا
المراجع:-
- Engaged Ephemeral Art: Street Art and the Egyptian Arab spring
- https://www.researchgate.net/publication/315847726_Engaged_Ephemeral_Art_Street_Art_and_the_Egyptian_Arab_Spring
احيانا قد يكلف الامر حياة الفنان اذا اتضح انتقاده للسلطه . لذا اغلبهم يكون التعبير بشكل مبهم