بفضل التطورات التي طرأت على الثقافة والذائقة البشرية، بات الفن يظهر على عدةِ أشكال، ولم يعد مُنحصرًا بنمط أو ثيمة معينة الأمر الذي لاقى اهتمامًا من البعض مِمن يرون بأن الغرابة والبساطة هي ما يُميز أشكال الفن المختلفة، فهي تعبر عن أرواحهم أو نتاجات صراعاتهم الداخلية في معترك الحياة، الأمر الذي سيدفع المشاهد إلى النظر والتأمل أكثر في هذه النتاجات التجريدية كونها قد تتشابه مع واقعًا يعيشهُ الآن، ومن أمثلة الفن التجريدي الحديث هو (البونساي bonsai).
حيث يعود فن البونساي (bonsai) إلى أصولٍ صينية، وبدايتهُ كانت من فن الـ (بونكِي)، وهو ترتيب وتصميم التربة أو الرمل مع الطحالب والنباتات والأعشاب فوق الأواني، للاستمتاع بنموذجٍ حي مُصغر للمناظر الطبيعية والذي كان في البداية مجرد هواية للطبقة الأرستقراطية، ولكن مع مرور الوقت انتشر على نطاق أوسع، فدخل إلى اليابان في القرن الـ12 الميلادي ثم تطور واشتهر في العالم عن طريقها، ليتحول من مجرد هواية إلى فن يعتمد على إستخدام النباتات بشكلٍ رئيسي.
فقد أصبح من الفنون التقليدية اليابانية، وأخذ البعض يطلق عليه (فن النحت على الأشجار)، حيث تُستخدم فيه الأشجار والنباتات المُعاد زراعتها لتنمو وتصبح نموذجًا مُصغرًا لمنظرها في الطبيعة، فيتم زرع الشجيرات في أوانٍ أو أصوص (سنادين)، ويتم تشذيب الأفرع الصغيرة وتلوى الأغصان بحيث تميل نحو الأرض عن طريق خيوط من النحاس، ويجب أن لا يتعدى طول الشجرة عند بلوغها الـ 60 سنتيمترًا، كما ويتم تقليم جذور الشجرة نظرًا لإنعدام المجال للمزيد من التوسع في نموها والإبقاء على جذر واحد حديث للنمو على هيئة شجرة مصغرة ويكون قوامها منتصب أو متعرج أو متموج على شاكلة الأشجار الموجود في الطبيعة.
وأن أكثر الأشجار ملائمةً للبونساي هي ذات الطبيعة الصمغية كأشجار الصنوبر مثلاً، أو عن طريق أي من ألباب الأشجار التقليدية المستعملة كشجرة الأرز اليابانية وأشجار الدردار الصينية ونباتات القيقب اليابانية، كذلك يتضمن نخيل ومُتسلقات وأعشاب عادية من مناطق مختلفة إستوائية أو شبه إستوائية أو معتدلة المناخ، أما عن طريقة زراعة الأشجار فبعضها تنمو بالتربة الفقيرة وأخرى تحتاج لتربة غنية، ولا يتطلب البونساي الأشجار المعدلة وراثيًا.
كما لا توجد هناك نهاية أو مرحلة إكتمال لفن البونساي، حيث أن النبتة تستمر في النمو وفي التغيّر والتحول على الدوام، لذلك فإن تخصيص الوقت اللازم أمرًا جوهريًا للغاية، فسابقًا كان البونساي شغف كبار السن من الرجال لما لديهم من فراغ ومتسع من الوقت في الرعاية والمتابعة، ومن هنا جاء الانطباع عن فن البونساي وإرتباطه بكونه (هواية كبار السن)، وظل لسنوات طويلة يُنظر إليه على هذا الاساس.
أما اليوم فقد أخذ منحنًى جديدًا من خلال تزيينهُ بدمج عناصر أخرى كالمجسمات والتماثيل الصغيرة فبات يعرف بفن الـ(مام بونْساي) والذي يختلف عن البونساي التجريدي العادي كونُه تصويريًا يمكن من خلاله التعبير عن قصة أو حدث معين كما في مجسمات الديوراما.
فالغرض الأساسي من البونساي هو التأمل، وليس المقصد منهُ إنتاج الثمار أو إنشاء ساحة أو حديقة بحجم الحدائق أو المناظر الطبيعية، فمن جهة سيُعطي فرصة لتذوق وتأمل جمال الطبيعة من خلاله، ومن جهة أخرى مُمارسة متعة الجهد والإبداع (للمزارع) ليُعبر عن إبداعه وذوقه الخاص من خلال شكل البونساي الذي يطوره، وللبونساي قاعدة ذهبية تقول : “إذا أعجبك شكله ومظهره، فهو بكل تأكيد بونساي جميل”.
والبونساي يعتبر من الفنون البسيطة ولا يعني الذهاب وراء المُمارسة التجريدية البحتة للتقنيات، وإنما يُركز على إندماج الفرد في العملية لتتغير طريقة فهمه وإستيعابه أو الإحساس به وتذوقه وحسب عقلية الإنسان وتفكيره، فقد أصبح فنًا يهتم بالإحساس العالي للمنظر الجمالي، وبما أن المنزل هو المكان الذي يشعر فيه الإنسان بالأمان والراحة ويأخذ جزءًا كبيرًا من العناية والاهتمام والتنظيم، فهو جزءًا من هوية الفرد، وبذلك فمن الممكن أن يخدم الشخص الذي لا يقطن قريبًا من الطبيعة ليجد مهربًا من إضطرابات الحياة نحو هدوءًا وانسجامًا أكثر.
كما وأن هذا الفن لم يأسر قلوب الشباب الياباني فحسب وإنما تمكن من جذب إهتمام الأجانب إليه كهواية مُمتعة وفن قائم بحد ذاته لا سيما في أوروبا حيث يلاقي شعبية كبيرة وتوجد أيضًا إتحادات وجمعيات وكذلك مجلات مُتخصصة تُعنى بهذا الفن، كذلك ظهر الكثير من الخبراء والمُهتمين الشغوفين في جميع أنحاء العالم؛ بمُمارسة فن البونساي، وتعليمه للآخرين، كما يسعى بعضهم لتطويره.
ومن أبرزهم الخبير الإسباني (دابيد بينابينتي) المعروف بعشقه لفن البونساي على مستوًى عالمي، حيث يُخصص جُزءًا من وقته من أجل توجيه الراغبين في تعلم هذا الفن أو لأولئك الذين لا يعرفون شيئًا عن كيفية زراعة الأشجار داخل الأصص وكيفية تهذيبها، من خلال دورات وحلقات دراسية، إلى جانب نخبة من المتخصصين؛ بهدف نشر هذا الفن.
حيث نجح في إقامة حديقة يابانية بالقرب من مدينة (مدريد)، حيث يمكن لعشاق الطبيعة بشكل عام ومحبي فن “الـبونساي” بشكلٍ خاص بالإستمتاع داخل الحديقة بمكانٍ هادئ يساعد على تأمل بعض الأنواع المُتميزة من الأشجار التي زرعها بنفسه، مثل الصنوبر والأزاليا، فيما أكد (بينابينتي) بأن الشخص الذي يتعلم كيف يُراعي هذه الأشجار سيتلقى أيضًا من الدروس التي تُساعده على العيش بشكلٍ أفضل.
والجدير بالذكر فان أشجار البونساي التي يقوم بزراعتها وتصميمها خبراء هذا المجال تُعامل كأعمال فنية جمالية، كما وتُقيم بمبالغ ماليةً ضخمة لتصير من المُقتنيات غالية الثمن.
المصادر:
1- https://www.facebook.com/ay12500/posts/1478603172190523/
البستنة علم وفن وجمال.
2- اليابان بالعربي
https://www.nippon.com/ar/features/jg00017/
3- https://myrosis.blogspot.com/2016/11/bonsaiartandhobby.html
البونساي فن وهواية.
4- البونساي الياباني.. سر السعادة في شجرة
https://al-ain.com/article/japan-bonsai-the-trees-pine
5- https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D9%88%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%8A
وكيبيديا الموسوعة الحرة.