ليس من السهل ان تكون ادوات الرسام جاهزة لرسم الفرح والصور المشرقة لبلادٍ تحتضر. علينا الاعتراف بواقع المرارة والألم الذي يعتصر قلوبنا جميعاً كعرب. الفنان صاحب القضية والذي يفكر بمعاناة شعبه وما تمر به الشعوب الأخرى في البلدان المجاورة او المنطقة بشكلٍ عام هو فنان انساني بكل ما للكلمة من معنى. فقد لا يخفى سراً على احد ان الفن عبارة عن رسالة انسانية توعوية وتثقيفية وهذا التعريف المتداول عالمياً ولم اجلب شيئاً من عندي. الفنان صاحب الرسالة الحقيقية قد لا يرى النور في بعض البلدان ولا يذكر انجازه لأن بعضاً من المسيرطين على نافذة الفن من ذوي الاختصاص او ما يعرفون باصحاب الخبرة قد لا يروجون الى الفن الهادف الذي يعبر عن الشعوب المنكوبة سواء من انظمة جائرة او ظروف وعقبات سياسية واقتصادية ومجتمعية طرأت عليها من قبل سياسات دول اخرى او حتى لو كان الأسى والمعاناة يتدفقان من قالب المجتمع ذاته.

لوحة ولادة الشرق الأوسط الجديد للفنان التشكيلي العراقي وضاح مهدي


 

هناك العديد من يروج الى اللوحة والعمل الفني اياً كان نوعه كأنه سلعة فان لم تلبي رغباتهم او لم تكن ملائمة لما يتطلعون اليه ويتوقعونه منك ستكون حتماً غير مرحب بك أو لن تلقى الصدى والنجاح الذي يليق لأسمك ومكانتك كفنان انساني بالدرجة الأولى والأساس.

وحتى التطرق الى هكذا موضوع شائك نوعاً ما قد يثير حفيظة البعض وسيجلب الانتقادات وتتعالى الأصوات وتكثر التساؤلات عن  اي فنٍ واي رسالة اتحدث هنا؟ وكيف بررتي واطلقتي الأحكام المطلقة علينا بهذه السهولة؟

وهذا شيء متوقع، لكن في هذا الوقت الراهن ادع كل هذا على جنب، لأنني ارغب في التركيز فقط على موضوع اللوحة نفسها. والتي لا تقل شأناً بمواصفتها عن الأعمال العالمية التي تعبر عن التشوه والتراجيديا العالية التي يمر بها الكائن البشري في زمنٍ انتشرت فيه لغة الظلم والقباحة اكثر من اي وقتٍ مضى. وهذا هو ما نستطيع الوصول اليه كدلالة من الدلالات العديدة والواضحة لو تمعنا النظر قليلاً في لوحة الفنان التشكيلي العراقي وضاح مهدي، التي تحمل عنوان “ولادة الشرق الأوسط الجديدة”. فبالنسبة لي كمتلقية اعتيادية، حتى لو تأملت هذا العمل دون ان يكون له عنوان يلخص المعنى العام لأجواء اللوحة فلن اقع في حيرة تفسير الطابع التكويني للمجسمات والشكل او الرموز الماثلة في لوحة الفنان المتميز ذو الاسلوب المتفرد من نوعه، وضاح مهدي.

فربما لكثرة البشاعة اليومية التي نشاهدها عبر التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي من اخبار، وصور ومقاطع فديو مريبة التي قد تجعلك لا تستطيع النوم لعدة أيام لو كبست زر المشاهدة عن طريق الخطأ او ارضاءاً للفضول الذي يراودك بين الوهلة والاخرى لترى مالذي سيحصل في الدقائق القادمة؟ خصوصاً في مشاهد النحر المقززة التي يتلذذ بها الكثير من الناس بحجة دع العالم يتفرج وان يكون شاهد عيان للجرائم الحاصلة في كل من العراق، سوريا وغيرهما من الدول التي عانت ولازالت في معاناة مستمرة من التطرف والعنف المهول الواقع على اراضيها. وباعتقادي ان هذا العمل ترجم تلك الدلالات بطريقة ذكية ابتداءاً من العنوان الى الالوان والى العنصر او الجسد الذي يشكل العنصر الاساس والعامل الأهم بجذب الانتباه الا وهو جسد الطفل. نعم ان الصورة الماثلة امامكم هو ولادة لطفل مشوه الذي رغب الفنان وضاح مهدي بان يعبر من خلاله عن الطفولة المذبوحة والبراءة المسروقة من اطفال تلك الشعوب المقهورة، كأنه يطرح علينا سؤال متغافلين مدى خطورته لأننا لا نسأله لانفسنا نحن الذين نشاهد من بعيد لما يجري هناك من مجازر وتهجير قسري، ورعب، وتجويع مبرمج ضد الكثير من ضحايا الحروب والاقتتال الطائفي والارهابي معاً. فهو بدوره يطرح علينا تساؤلاتٍ عدة منها اذكر على سبيل المثال:

 

مستقبل الطفل العربي المشرد او الذي ينتظر دوره في التشرد هو الأخر الى اين؟

ماهي انواع الالعاب التي سيبحث عنها اطفال الاجيال القادمة؟

ماهو دور المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الأنسان والخطابات الرنانة في المحافل العربية او العالمية جراء ما يحدث من فوضى عارمة واستنزاف بشري لضحايا الشرق الأوسط؟

ماذا سنقول لاطفالنا يوم غد عندما نروي لهم الاحداث الدموية التي تعصف في المنطقة العربية والادهى من ذلك وقفنا متفرجين جراء ما يحدث هناك واكتفينا في التنديد فقط. انا شخصياً اعتقد بان اطفالنا هم من يدفع الثمن والثمن الباهض جراء صمتنا الذي اقترن بنا منذ الولادة حتى اخر يوم لنا على هذه الارض؟

وعلى اي مبادئ وأسس سنبني المجتمعات المنكوبة والتي تشهوت سواء بفعل فاعل او كنتائج متوقعة لكوارثٍ زرعت وتجذرت اصولها جراء الاحداث الدامية لجهات معروفة او لم تعرف عن نفسها بعد ومع ذلك نعلم ان التغيير والأصلاح بات اشبه بولادة متعسرة، والطفل اما ان يرى النور او سيخرج من رحم أمه ميت.

بل حتى الشعوب المشتته بين ارجاء تلك البلدان وبلدان المنفى كيف سيكون باستطاعتهم تقرير المصير وتغيير مجريات ما يحصل هناك والبدء في قلب صفحات الوجع الأزلي وانقاذ ما تبقى ونقله الى شاطئ الأمان؟ وماذا عن الايادي او القوى الخفية الجاهزة في كل زمانٍ ومكان بتهديم حتى الأحلام وان كانت على ورق او مرسومة على الجدران، او مجسدة بأشكالٍ رمزية بطريقةٍ او بأخرى، متى سنتخلص منهم؟ او متى سينتهون ويبدأون بالتلاشي كما كنا نقرأ في القصص الاسطورية والتأريخية المنقرضة والتي لا اساس لها من الصحة؟

والكثير من التساؤلات التي لا اطرحها انا فحست ولا انت كقارئ، بل هو نفسه السؤال الذي طرح الفنان وضاح مهدي خلال عمله “ولادة الشرق الأوسط الجديدة” التي تدل تعبر بشكلٍ مباشر عن ولادة مشوهة لكل شيء جميل يستحق ان يرى النور، لكن ليس وهو مشوه، ليس وهو محطم، ليس وهو بائس ومهزوم، ليس وهو مستضعف من جميع الجهات ابتداءاً من الازقة والحارات البدائية مروراً بالقرى والاحياء الشعبية وارجاء المدن وسرعان ما ينتهي الأمر عاجلاً ام اجلاً بدول شبيهه او نقيضة لما تمر به تلك البلدان المغلوب على امرها وصولاً الى ارجاء العالم الأخر الذين ليس لديهم اي معرفة بما يحصل من تشرذم على كافة الأصعدة وليس في الأمر اي مبالغة في الوصف لأنه فعلاً كذلك ومن يرى العكس فهو لازال يغرق في سباتٍ شتوي طويل الأجل وهنا تكمن المأساة الحقيقية. حينما نرفض او ننكر للحقائق فنتعمد اسلوب المراوغة والتحايل على الواقع بالضحك على انفسنا ونقول غداً يوم افضل. هذا ما اتمناه حقاً ولكن شرط ان نرى هكذا نظرية مطبقة على ارض الواقع وليس مجرد شعارات نرددها كالببغاوات ونمضي وتمضي الأيام والسنين بنا دون احداث تغيير ملموس في هذه الحياة المزدحمة بالقباحة والتي تشبعت بثقافة غض الانظار والصمت المبرح جراء المأسي الممارسة بحق الشعوب المستضعفة والمغلوب على امرها بطريقةٍ او بأخرى. أكاد اشك باننا نحن السبب الرئيسي قبل اي اسبابٍ او تداعيات اخرى بشرية، كونية او تحصيل حاصل لما يحدث في الشرق الأوسط الجديد وبكل تأكيد ما خفي كان اعظم. ونرى كل تلك المعاني قد اختزلها الفنان وضاح مهدي في هذه اللوحة التي جاءت تعبيراً صادقاً عن مأساة الشرق الأوسط الجديد.

 

                                                           الفنان التشكيلي العراقي وضاح مهدي ولوحته بعنوان ولادة الشرق الأوسط الجديد