إن الباحث في الثقافة المغربية يعلم كل العلم مدى غنى المكونات الثقافية للمملكة، وما تزخر به من تنوع فلكلوري بهي، وتراث عريق ضارب في القدم يتشابك والألوان الشعبية المختلفة باختلاف الانتماءات الثقافية والأنماط المعيشية والأصول الإثنية المكونة للتاريخ المغربي في عمقه ؛عل ما يجذب القارئ والباحث على حد سواء هو ذلك التنوع الأنثروبولوجي للمكون الثقافي المغربي الذي تنصهر فيه أساليب العيش والتقاليد البالية مع العادات والأعراف والعقائد والقيم السامية العابقة برائحة الأرض، لترسم في كليتها أنماط سلوك مرتبطة سوسيولوجيا وسيكولوجيا بمجتمعها وبموروثها التاريخي بكل سماته ودلالاته لتخلق سيرورة تاريخية عبر دروب الزمن تربط الفرد ببيئته، وحاضره بماضيه.
في ظل هذا التباين في التمظهرات الثقافية المشكلة لملامح المجتمع المغربي، يبقى الفن هو البوتقة المحتوية لجل حلقات ذلك التاريخ العريق بكل تأثيراته وتأثراته سواء سياسية واجتماعية..، حيث يتمازج الداخلي بالخارجي ليعطينا لوحات فنية تراثية فسيفسائية ذات أبعاد جمالية كبيرة.
يضم الفلكلور المغربي في باطنه إرثا موسيقيا ضخما متعدد المشارب بتنوع تضاريسه الجغرافية، ما يؤشر على غنى الخارطة الموسيقية بالمملكة، فمن الموسيقى الأندلسية (طرب الآلة)، والطرب الغرناطي، وطرب الملحون، وفن المديح والسماع، إلى موسيقى عيساوة، والفن الحمدوشي، وفن أحواش، وفن أحيدوس، والدقة المراكشية، والعيطة الجبلية (الطقطوقة)، وفن العيطة، ، والموسيقى الشعبية الحسانية وموسيقى كناوة وغيرها… وهي كلها أنماط تشكل فسيفساء إبداعيا متمازجا، ونتاجا أثيرا متأصلا لشجرة الإبداع المغربي1، لا يسعنا المقام هنا للحديث عن الينابيع التي صبت في الثقافة المغربية واختلطت بها، وعليه فلا مناص من تسليط الضوء على الأقل على أحد هذه الألوان الموسيقية من أجل إدراك ذلك الاختلاف وفهم أبعاده، ولم لا ملامسة أغواره ولو عبر “اللغة” وشاعريتها.
سنتناول في هذا المقال “موسيقى كناوة” خاصة والفن الكناوي عامة، عبر تسليط الضوء على ماهية الفن الكناوي، أصوله، خصوصيته وامتداداته. أصول هذا الفن:
تعود أصول هذا الفن الفريد إلى مئات السنين، لكن الجدل قائم حول المكان الذي ينحدر منه كناوة أو بتعبير آخر الأرض التي زرعت فيها بذور هذا اللون قبل أن ينتقل إلينا؛ هنالك شبه اتفاق حول الجذور الأولى لمعظم الكناويين، وقد حددت في بلاد السودان التي كانت تضم آنذاك العديد من الدول منها السينغال ومالي والنيجر وغينيا.
أفاد بعض المؤرخين ومن بينهم الحسن الوزان المعروف “بليون الإفريقي”، بأن تسمية كناوة تعود “لمملكة يسميها التجار الأفارقة كناوة، والأهليون جيني، ويطلق عليها البرتغاليون ومن لهم خبرة بهذه المناطق في أوروبا غينيا.”2، في ذات المنحى سار المؤرخ الأندلسي محمد بن أبي بكر الزهري، الذي أورد بأن الرقيق كان يجلب من بلاد كناوة3 إلى المغرب والمشرق والأندلس.
ذهب المستشرق الهولندي رينهارت دوزي، في معجمه الضخم ” تكملة المعاجم العربية” إلى أن كلمة كناوة (غينيا)، هي صناجات يستعملها الزنوج، عبارة عن صفائح حديدية تثبت في كل يد على حدا ويعزف بها لضبط الإيقاع، (تسمى في المغرب بـــ “القراقب”). خلال القرن السادس والسابع عشر جيء بالزنوج إلى المغرب من بلاد السودان كعبيد، إما للعمل في الأراضي أو لحراسة السلطان (عبيد البخاري) وبعد انتهاء مهمتهم استوطن غالبية أحفادهم المغرب حيث أنشئوا مدينة “الصويرة” المدينة الأم للكناويين، ثم تناثروا في باقي مدن المملكة كفاس ومكناس ومراكش والرباط، حيث أسسوا مزارات تقام فيها احتفالات كناوية، ونذكر منها زاوية “سيدي بلال ” التي تعد بمثابة القبلة الروحية والوجهة الأولى لكناوة. تجدر الإشارة إلى أن المغرب ليس البلد الوحيد الذي يعرف كناوة وموسيقاهم، فالجزائر وتونس وليبيا أيضا يعرفون هذا الفن.
الموسيقى الكناوية: فن، تصوف واستشفاء:
الموسيقى الكناوية موسيقى ذات إيقاعات قوية ومتناسقة يختلط فيها الإرث الفني الأفريقي والأمازيغي والعربي، ويمتزج فيها صوت الطبل بالقراقب والهجهوج (الكنبري)، فما تعود هنالك حاجة لاستعمال مكبرات الصوت في ظل عزف يحاكي التقاليد الكناوية ذات الإيقاعات الإفريقية الأصيلة، والأهازيج المعبرة عن صرخات العبيد ومناجاتهم. لا ينحصر الفن الكناوي فقط في الموسيقى والعزف، بل هو فن متكامل الأركان يبدأ من اللباس الذي يرتديه كناوة، ذلك الرداء المزركش بالألوان المرصع بالصدف، ثم طريقة العزف والرقص إلى المواد التي تأثث بها “الليلة” الكناوية من بخور وأكل محدد وذبائح، وما إلى ذلك من مستلزمات ضرورية لا تكتمل طقوس الحضرة والجذب إلى بها.
لعل ما يميز موسيقى كناوة هو النفس الروحاني الذي تعبق به، وطابعها العلاجي الخاص الذي يميزها عن باقي الألوان الموسيقة الأخرى إلا أنه يصعب إدخالها في خانة الموسيقى الصوفية نظرا لطابعها الميثولوجي الإفريقي. ارتبط اسم كناوة في المخيال الجمعي المغربي بالسحر والشعوذة واستحضار الأرواح، إلا أن الكناويين يتبرؤون من هذه التصرفات التي تسيء لفنهم وما ورثوه عن أجدادهم، فيقولون إنهم لا يقومون إلا بعمل “الخير” ومنح البركة “لأولئك الذين عجز الطبيب عن مداواتهم” فهم وعلى حد تعبيرهم “يقومون السبب والكمال لله “. تعتبر “الليلة” مناسبة طقسية يجتمع فيها موسيقيو كناوة بالمرضى الذين يعانون من علة نفسية أو جسدية أو عضوية ترتبط بأمور كالعين والسحر والمس، ويجب على المريض احترام الطقوس والامتثال لتعاليم مقدم الطريقة أو المعلم ليكتمل شفاءه، وتستلزم هاته الطقوس: البخور والشموع والذبيحة والرقص على أنغام الموسيقى والأهازيج فيما يسمى “الجذبة” بالدارجة المغربية إلى أن يصل المريض إلى حالة الإغماء، عندئذ يعتقد أن المريض شفي مما فيه. تقام “ليلة” كناوية أخرى لكن هذه الأخيرة تخص فقط محبي كناوة وعشاقها.
التراث الكناوي من المحلية إلى العالمية: بدأت موسيقى كناوة رحلتها في سماء العالمية منذ نصف قرن تقريبا، فبعراقتها وأصالتها استطاعت التأثير في عدة ألوان موسيقية أخرى والامتزاج بها، ويظهر هذا التأثير في الموسيقى الشعبية المغربية وموسيقى مجموعة “ناس الغيوان” وغيرها من الألوان الموسيقية المحلية، في حين تجلى انتشارها العالمي في توظيفها ومزجها مع موسيقى الجاز والبلوز والريغي، نذكر على سبيل المثال لا الحصر تجربة جيمي هندريكس والبينك فلويد وكارلوس سنتانا والقائمة طويلة. ساهم “مهرجان كناوة موسيقى العالم”4 الذي يقام كل السنة بمدينة الصويرة بالتعريف أكثر بموسيقى كناوة وأتاح الفرصة للعديد من الموسيقيين العالميين للعمل مع فرق كناوة، في جو من التبادل الثقافي والتعايش السلمي داخل كنف الفن والموسيقى؛ “تم تسجيل فن كناوة كتراث إنساني ضمن اللائحة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي، وذلك خلال اجتماعات الدورة الرابعة عشرة للجنة الحكومية الدولية لاتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي لليونسكو٬ المنعقدة في بوكوطا عاصمة كولومبيا يوم 12 دجنبر 2019.”5 ، وما هذا الاعتراف إلا حفاظ على ذاكرة هذا التراث الفني المغربي والتأريخ لمرجعية إفريقية تحمل في صلبها ميثولوجيا افريقية مفقودة
لطالما كان الانسان الافريقي إنسان الإيقاع بامتياز، وكيف لا يكون كذلك وهو يعيش في فراغ الصحراء الشاسع، فتصبح الموسيقى بهذا المعنى هي البوصلة التي التحول دون فساد العقل وتيهانه، ولما كان العبيد هم أصل موسيقى كناوة ومحدثيها كان الفن الكناوي عامة يتجاوز مستوى العزف والرقص والتطبيل بل هو في عمقه صرخة وجودية، صرخة الرقيق الأفارقة الذين عانوا ويلات الاستعباد، فهي إذن موسيقى من رحم المعاناة ومن بطن الحوت الذي ابتلع آمالهم في الحياة.
- الإحالات والهوامش:
- عن مقال بعنوان “الأنماط الموسيقية التراثية بين التأصيل والتجديد”، جريدة أخبار اليوم، بتاريخ 31 يناير, 2013. http://bayanealyaoume.press.ma/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D9%85%D8%A7%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9/.html
- الحسن الوزان: وصف افريقيا، الجزء الأول، ترجمة، محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1983، ص162.
- ” وفيه مدينة غانة، وبين هذه المدينة والبحر الأعظم في المغرب ثمانية (8) أيام. وهي حاضرة ڴناوة.” أنظر، محمد بن أبي بكر الزهري: كتاب الجغرافيا، اعتنى بتحقيقه، محمد حاج صادق، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، عن مكتبة الإسكندرية، ص125.
- https://www.festival-gnaoua.net/ar/le-festival-et-la-ville-d%27essaouira
- https://www.minculture.gov.ma/?p=22660
- المصادر والمراجع:
- محمد بن أبي بكر الزهري: كتاب الجغرافيا، اعتنى بتحقيقه، محمد حاج صادق، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، عن مكتبة الإسكندرية (نسخة رقمية).
- الحسن الوزان: وصف افريقيا، الجزء الأول، ترجمة، محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1983.
- رينهارت دوزي: تكملة المعاجم العربية، الجزء التاسع، نقله إلى العربية وعلق عليه، حمال الخياط، دار الشؤون الثقافية العامة (آفاق عربية)، بغداد، الطبعة الأولى، 1999.