عند انتهاء الحركة الفنية “الدادائية” في عام ۱۹۲۲ في باريس ، تفككت أوصالها لأن الكثيرين من المنتمين إليها قد شعروا بالحاجة إلى تجاوز مرحلة النفي ، إلى التخلي عن الاكتفاء بتمجيد اللامعقول . مع أنهم ظلوا يعلنون سوء ظنهم بالعقل والمنطق ، لم يعودوا يقتنعون بمجرد تجريحهما ، بل أرادوا أن يجابهوهما بخصب اللاعقلانية الذي كان ( فرويد Freud ) قد لفت الأنظار إليها منذ مدة وجيزة ، فقد تأثر السرياليون بفرويد فيلسوف التحليل النفسي كثيرا ، وخاصة عندما اعتبروا أنفسهم آلات مسجلة لصوت اللاشعور . هم يريدون أن يسبروا غور ما دون الوعي وأن يستثمروه .

حاول السرياليون ملء الفراغ الذي تعمده الدادائيون وذلك عن طريق البحث عن الظواهر غير العقلية للفكر ، سواء بالوسائل العلمية أم الوسائل الحدسية ، و اختاروا المذهبهم هذا اسم ( السريالية )  ، أي ما فوق الواقعية.

هم يعتبرون، كما يعتبر (تين Taine) : “أن الهلوسة التي تبدو شيئاً فظيعا ، إنما هي في الحقيقة مثابة اللحمة لحياتنا الذهنية.”  لذا فإنهم يعيرون أهمية خاصة للصور التي تبرز ماثلة في الخاطر عندما تدنو اغفاءة النوم ، أو في الأحلام .

 وكلما قلّت سيطرة الوعي على ميكانيكية النفس زاد اعتبارهم لهذه الميكانيكية بأنها جديرة بالاهتمام . 

وقد عرّف بريتول السريالية في البيان الذي نشره عام ١٩٢٤ ، فقال : ( إنها آلية نفسانية صافية نحاول بواسطتها أن نعبر عن العمل الحقيقي للفكر ، سواء أكان ذلك عن طريق الكلام ، أم الكتابة أم بأية طريقة أخرى . ذلك في غياب كل اشراف من جانب العقل وخارج نطاق كل اهتمام أخلاقي أو جمالي)

 ينتج من ذلك أن السرياليين يولون أكبر الأهمية لحالات النوم المغناطيسي ، بل حالات الجنون نفسها .

وعلى عكس الدادائية التي نشأت على الفوضى ، فإن السريالية سعت عن طريق العمل المشترك المنسق ، الى تحقيق ثورة مستمرة متأججة .

ولقد أدى فشلهم السياسي ، وانتقال أكثر أعضائهم الى اليمين بعد أن كانوا يساريين ، إلى تحويل اهتمامهم نحو العلم والشعر والتصوير والسينما.

الدوافع السيكولوجية التي أدت إلى ظهور السيريالية

لقد كان لظهور السيريالية في أعقاب الحرب الأولى مغزى بعيدا يتصل ببواعث ودوافع إنسانية ، كما تسمو غايته إلى ارتياد آفاق لا عهد للفن بها من قبل على الصعيد العالمي . . وإذا كان هذا المذهب يعتبر في جوهره صدى لأبحاث علم النفس الحديث للعالم سيجموند فرويد وخاصة ما يتعلق منها بالتحليل النفسي ، فإننا إذ نقرن ما بين تلك الأحداث الرهيبة والكوارث المروعة ، التي نجمت عن تلك الحروب -في العالم أجمع بصفة عامة ، وفي أوروبا بصفة خاصة- وبين أبحاث التحليل النفسي . . يتضح لنا جليّا ذلك المغزى الذي نهدف إليه . . ذلك أن تلك الأحداث الفظيعة ، وما جرته على الإنسانية من أزمات اجتماعية ، ومشاكل سياسية واقتصادية ، وما أصاب الأفراد والجماعات والشعوب من صدمات و محن أدت إلى ارتباكات سيكولوجية وعقد نفسية ، قد وجدت طريقا إلى حلها عن طريق الفن . . ولما كان هناك عدد من المذاهب والاتجاهات الفنية ، التي سبق وتناولناها  كالتعبيرية و التجريدية ، قد شقت طريقها إما للتعبير عن الأحزان والاضطرابات الروحية . . وإما فرارا من الواقع البغيض بآلامه وهمومه إلى عالم المطلق . فإن البواعث التي أدت إلى ظهور المذهب السيريالي ، هي بطبيعتها بواعث إنسانية . . غايتها إلى جانب الوصول إلى آفاق ابتكارية جديدة من الفن .. العمل على التنفيس عن ذلك الصراع النفسي الحاد . 

نشأة المذهب السيريالي 

 عندما انتقل عدد من فناني “الدادائية” إلى باريس في نهاية الحرب الأولى ، احتضنهم الشاعر والفيلسوف الجمالي “أندريه بريتون Andre Breton” . . الذي كان على رأس الدادائية في باريس . . إلا أنه عندما تألفت جماعة مذهب السيريالية ، كان هو القائد الروحي الموجه لها . . والذي قام عليه عبء تكوين النظرية الجديدة . . ونشر البيانات والمقالات التي تعمل على توضيح أسسها ، وأساليب الأداء فيها ، حيث كانوا يطلقون على بريتون لقب أبو السيريالية ” Peps of Surrealism ” .. وقد انضم إلى هذا المذهب تحت زعامته عدد ممن كانوا في دادائية زيوريخ أمثال : كريكو ، أرنست ، ميرو ، بول كلي . . وانضم إليهم الفنان سلفادور دالي الأسباني ، وأصبح إماما لهذا الاتجاه من الوجهة التطبيقية . . 

حيث عند الشروع في وضع السيريالية ، أخذوا أولا بمبدأ الدادا -الذي يعمل على إلغاء جميع النظم والتطورات السابقة-  وذلك لكي يجعلوا من هذا المذهب الجديد ، رد فعل لجميع المذاهب السابقة . . وخاصة منها الأوضاع التجريدية و التكعيبية ، بالعودة إلى الواقعية . . في أسلوب ابتكاري يختلف عن جميع الأوضاع الواقعية السابقة . .

 حيث اتخذوا الأسس الآتية : 

1 – إسقاط القيم الجمالية والأخلاقية والأدبية. 

 ۲ – الانتقال في العمل الفني من المعلوم الواضح إلى الغامض المشوش ، باتباع الأساليب الرمزية اللاشعورية . . 

 ٣ – الاهتمام بدراسة أوضاع واقعية ، دون الدراسة الطبيعية . 

4 – العمل على رسم الأشياء كما تشاهد في عالم الرؤى والأحلام بأوضاعها الرمزية الغامضة ، حسب قاموس التحليل النفسي . . 

٥ – إدماج الواقع في اللاواقع . .

فنانوا السيريالية

 ماكس ارنست Ernest : 

 ولد ارنست عام 1891 في بروهل ( المانيا ) ، و تلقى في بون ثقافة عالية في تاريخ الفن ، و كان فنانا عصاميا تدرب على الفن بدون معلم في باريس وبرلين ، ثم أسس عام ۱۹۱۹ ، مع آرب و بارجلد حركة الدادا في الفن .  واستقر في باريس منذ عام ۱۹۲۲ ، واشترك فيها بالمعرض الفني الأول للدادائيين وأقام في نيويورك من عام 1941 الى 1945 ، ثم انتقل الى سيدونا ( أريزونا ) . وفي عام 1954 حصل على الجائزة الكبرى لمعرض بينالي البندقية وقد زار لبنان وتدمر مارا بدمشق عام ۱۹۷۰ . بعد بداية أرنست الدادائية ، أصبح من ممثلي السريالية الرئيسيين في فرنسا ، وقد ظهر مضمون لوحاته الشعري في أشكال تعبيرية متنوعة من الناحية التقنية ، ثم استعمل طريقة التلصيق بمهارة ممتازة . ويمتاز انتاجه الفني بخيال خصب يغوص في أسرار الطبيعة و اللاشعور الانساني ، واستطاع بذلك أن يخلق عالما طبيعيا ومبتكرا بوقت واحد و لقد أوجد مناظر سحرية حقيقية أو مجردة أحيانا ، خارقة وخيالية أحيانا أخرى .

رونيه ماغريت Magritte ( ۱۸۹۸ – ۱۹۹۷ ) :

ولد ماغريت في ليسين ( بلجيكا ) ودرس في أكاديمية الفنون الجميلة بروكسل ، ثم زار فرنسا وانكلترا وألمانيا وهولاندا ومنذ عام ١٩٢٥ حملت لوحاته طابعا خياليا الى أن احتك بالسرياليين عام ۱۹۲۷ في باريس ، فقوى بذلك سبيل التعبير الخارق الذي كان يسعى اليه ومضى في الاتجاه السريالي حتى النهاية . 

لم تكن سريالية ماغريت نوعا من التعبير اللاشعوري أو التعبير عن عالم الأحلام ، بل كانت تصعيدا شعوريا للأشياء في ذاتها ، فهو يحمّل الشيء معنى شاذاً ، ويضعه ضمن إطار مخالف للتقاليد والعرف ، وبذلك يخلق حقيقة تتجدد باستمرار . وبفضل خياله المرهف العميق ،  أوجد منبعا فنيا لاكتشافات تشكيلية رمزية لا نهاية لها . وبهذا المعنى كان لماغريت المكان الهام بين جماعة السرياليين في جميع أنحاء العالم .

سلفادور دالي Dali :

 ولد دالي عام 1904 قرب برشلونه ( اسبانيا ) ، و تلقى دراسته الفنية في أكاديمية مدريد ، واهتم في البداية بالمستقبلية ، ثم بأعمال دي كيريكو وكارا الى أن اتصل ببيكاسو عام ۱۹۲۸ وبجماعة السرياليين ، وعندما زار ايطاليا تأثر بلوحات رافائيلو تأثرا قويا . 

كان دالي رساما ومزينا للمؤلفات الأدبية ، ولقد أوجد لهذا النوع من الرسم طريقة جميلة جدا بدت في كتاب دون كيشوت والكوميديا الالهية و كتاب حياة سلفادور دالي .

لعب دالي دورا خطيرا في تاريخ السريالية ، فلقد أوجد نظرية ( البارانويا النقدية ) المبنية على الحركة الايجابية وعلى اندفاعية العبث لقد صور دالي العالم الغيبي بقوة مدهشة و بطريقة عميقة نفاذه .

 ثم انتقل في موضوعاته الى النواحي الدينية ، ومنذ سنوات عديدة وهو عاكف على تصوير لوحات كبيرة في موضوعات دينية . وقد بلغ بدالي الاعجاز التصويري ، عندما قدم أعمالا جديدة مؤلفة في بعض اجزائها من تفاصيل لوحات شهيرة في تاريخ الفن . كما قدم حليا ومجوهرات متحركة.

المراجع : 

1- البسيوني،محمود: الفن في القرن العشرين،مركز الشارقة للإبداع الفكري.

 2- محمد،حسن: مذاهب الفن المعاصر، مركز الشارقة للإبداع الفكري.

3- بهنسي،عفيف(1971م):تاريخ الفن والعمارة،المطبعة الجديدة.