في الوقت الذي كانت فيه أنفاس بيان مُضطربة وهي ترسم خطوطًا عشوائية على الورق.. كانت طائرات الاحتلال تقصف البيوت والمدنيين في قطاع غزة المُحاصر، لم تلبث أن تلقت أسرتها مكالمة لإخلاء المنزل في دقائق معدودة حتى حملت بيان كل ما تتسع له حقيبتها من أعمال فنية وأدوات للهرب بها وإنقاذها من المنزل.

بيان أبو نحلة (20 عام) فنانة شابة وطالبة تصميم جرافيكي، أكدت لنا على أنها -كالعديد من سُكان غزة- ما زالت تعاني من آثار ما بعد الصدمة من قلق وتذكر لأحداث القصف وهو الأمر الذي بات اعتياديًا بالنسبة لها، وعلى الرغم من ذلك تؤكد على أنها لا تحتاج سوى للفن للتغلب على هذه الصعاب وتخطيها. تُحدثنا بيان وزميلها خالد جرادة (24 عام) حول تجربتهما كفنانين شباب في ظل غياب مفهوم الإدارة الثقافية ومحدودية الفرص في هذا القطاع المُحاصر.

بيان أبو نحلة

 

خالد الذي يعمل في مجالات تيسير ورشات الفنون وحماية الطفولة، يبدأ حديثه حول وضع من هم في جيله من فنانين غزة فيقول: “جميعنا نتعلم الفن ذاتيًا، ولا نلتحق بأكاديميات فنون متخصصة وذلك لعدم توافرها هُنا.. بالإضافة إلى أن الوضع العام في غزة يوجهنا جميعًا لتبني المدرسة التعبيرية لحاجتنا المستمرة للتفريغ والتعبير عن الضغوطات المرتبطة بالحصار والحروب.”

ويستمر خالد بوصف المشهد الثقافي في غزة: “قلة عدد دور العرض والفعاليات الثقافية والفنية، يجعلها متاحة فقط لفئة محددة من الفنانين، وهم الفنانون أصحاب الخبرة والذين قضوا وقتًا طويلًا في تعلم كيفية الاستفادة من فرص العرض .. أما الفنانين الشباب فعادة ما يقتصر عملهم على تمويلات المؤسسات والمنظمات غير الحكومية التي تعقد أنشطة وبرامج تدريبية للأطفال واليافعين، إلا أن طبيعة هذا العمل -على أهميته- لا يلبي طموحات الفنانين الشباب في غزة والذين يمتلكون من المؤهلات ما يمكنهم من البدء بحياة فنية احترافية واعدة، حيث يعرضون أعمالهم ويشاركون رؤيتهم الفنية مع العالم من خلال تسويق وبيع أعمالهم الفنية الخاصة.”

 

خالد جرادة

 

 

 

وبسؤالنا عن طبيعة العمل مع المنظمات وطلبنا لتوضيح أكبر حول رأيه في هذا العمل، يقول خالد: “إن هذه المؤسسات عادة ما تظهر بصورة الداعمة والمُساندة للفنانين، وقد تكون كذلك إلى حد ما.. إلا أننا لا يمكننا تجاهل حقيقة أن هذه المؤسسات تخضع للعديد من المعايير الخارجية والداخلية، وثُخضعنا نحن لهذه الضغوطات بدورها أيضًا، كتحديد سقف لحريتنا في التعبير. وترتبط هذه المعايير باعتبارات سياسية ودينية وأُخرى تتعلق بتحفظات المجتمع وآراءه، ولا يمكننا أن نغفل عن أن هذه المؤسسات التي تُمول من حكوماتها -ومن جهات خارجية أُخرى غالبًا- تهتم جدًّا بتعزيز الصورة النمطية عن غزة، وتُشجع الأعمال الفنية التي تعبر عن هذه الصورة وتهميش أي عمل آخر لا يخدمها.. كأن تكون مضطرًا دومًا لتصوير غزة من مكان ضعف وفقر وخوف من الحرب، ولا تُحبذ الأعمال التي تشارك العالم صورًا واقعية حول الجانب الآخر من غزة .. كالحياة اليومية والحُب والجمال وغيرها.” 

 

ما ذكره خالد حول تحديد مواضيع الفنانين في سياق تعزيز صورة نمطية معينة، يُذكرنا بحقيقة أن هذا الاحتلال البشع -وفي الحرب الأخيرة على وجه الخصوص- عمِل جاهدًا أيضًا على إحداث تأثير مشابه على حياة الناس يستمر حتى بعد انتهاء الحرب، نتحدث هُنا عن قصف أماكن التجمعات الترفيهية والمُتنزهات التي تُشكل منتفس جمالي لأهل غزة كمنطقة الرِمال على سبيل المثال، وما هو جدير بالذكر هُنا هو أن هذه الأماكن هي ذاتها التي يجتمع فيها الفنانين الشباب للرسم والعمل والنقاش. وتؤكد بيان على ذات الفكرة فتقول: ” الاحتلال تعمد قصف هذه الأماكن الجميلة والتي نقوم عادة -بمبادرات شخصية- بتجميع أنفسنا فيها لنتشارك الفن معًا، فهي ملجأنا الوحيد في ظل صعوبة امتلاك مراسم خاصة أو حتى مساحات فنية مُشتركة، حيث أن الفكرة تبدو غير مألوفة أو مقبولة مجتمعيًا، مما يدفع المؤجرين إلى رفض تأجيرنا المساحات لهذا الغرض.”

 

بيان أبو نحلة

 

وبالحديث عن كل عوامل التضييق المذكورة سابقًا، تُراودنا أسئلة حول فُرص التواصل المُتاحة مع الفنانين الفلسطنين والعرب خارج غزة، تجيب بيان: “على الرغم من صعوبة الحصول على فرص للتواصل والتشبيك مع الفنانين والمؤسسات في الوطن العربي إلا أنها بلا شك أسهل من فُرص التواصل مع الزملاء من الفنانين في أي مكان في فلسطين. من المستحيل أن نجتمع لأي سبب أو نستفيد من فرص المؤسسات الفلسطينية خارج القطاع، ولكننا نسعى بشكل شخصي للتواصل دومًا عبر مواقع التواصع الاجتماعي. ولا يمكننا هُنا ألا نذكر الدعم المعنوي الكبير الذي قدمه فنانو الوطن العربي بالتزامن مع الأحداث الأخيرة، فتوجههم من خلال فنهم لتسليط الضوء على غزة وفلسطين بشكل عام يُعتبر دعم نفسي كبير لنا وأشعرني شخصيا بأنه -ولو لمرة واحدة – العالم يراني ويسمع صوتي كفنانة وكإنسانة بالدرجة الأولى.”

 

في قطاع غزة المُحاصر يواجه كل فرد صعوبات وظروف خاصة فريدة من نوعها فُرضت بسبب حصار الاحتلال والحروب المتتالية، إلا أن الفنانين -على وجه الخصوص- كُتب عليهم أن تكون مهنتهم (الفن) حالة وجدانية مُستمرة في ظل ظروف قاهرة  يصارعونها على مستوى يومي. كانت هذه شهادات كل من بيان أبو نحلة وخالد جرادة والتي تُعبر عن نموذج مُصغر لمجموعة أكبر من ممارسي الفن والأدب والثقافة.. أولئك الذين يخلقون من معاناتهم فنا وفُرصًا جديدة لرسم الأمل والحب والجمال من جديد!

 

المزيد من الأعمال لكلا الفنانين..

 

بيان أبو نحلة

 

 

 

 

 

خالد جرادة 

 

 

 

 

 

الفنانة بيان أبو نحلة

 

 

الفنان خالد جرادة