لا يمكنك خوض الحديث مع هند ناصر دون الخروج منه مشحوناً بمشاعر من العزيمة والتفاؤل والإصرار على تحقيق أقصى استفادة ممكنة من الفرص المتاحة أو حتى خلقها أحيانا أخرى..

في نظر هند “إن أساس الإنتاج هو المتابعة والممارسة والاستمرارية” وهذا هو تماما ما تميزت به هند كفنانة وناشطة في العمل الثقافي والتطوعي في مشوارها الطويل الموشوم بالعديد من الإنجازات والبصمات المهمة في المشهد الثقافي الأردني .

هند منكو ناصر فنانة أردنية وناشطة ثقافية من مواليد عام ١٩٤٠م تعيش وتعمل في وطنها الأردن. حظينا بهذا اللقاء مع الفنانة في مرسمها الخاص ومن خلال حديثنا الطويل والممتع معها حاولنا أن نلتقط ما استطعنا بعضا من أهم محطات حياتها.

 

أخبرينا عن هند

درست التاريخ والسياسة في كلية بيروت للبنات وحصلت على شهادة البكالوريوس ,عملت في التدريس لصعوبة عمل المرأة في مجال السياسة في تلك الأيام ، علمت طالباتي بأسلوب النقد والبحث ومختلف النشاطات الثقافية، كان همّي في ذلك الوقت نشر الوعي الثقافي الذي يتجاوز حدود الصف علمت طالباتي الاهتمام ببلدهم عن طريق إهتمامهم بآثارها فكانت الصفوف التي درستها أول من زار متحف جبل القلعه في عمان ومدينه البتراء
وعلمت الاهتمام بالمسرح فكانت الممثله قمر الصفدي على سبيل المثال واحده ممن مثلن في إحدى الأدوار في مسرحية قُدمت في المدرسة.

صورة للفنانة في مرسمها الخاص

 

حدّثينا عن بعض من نشاطاتك الثقافية؟

أسست في العام الذي تخرجت فيه نادي خريجات كلية بيروت للبنات وبعد أن تزوجت عملت مع السيده وداد قعوار في مجال الحرف التقليديه لما لها من أهمية في الحفاظ على الموروث وتثبيت الهوية. أجرينا بحثا شاملا للاطلاع على ما لدينا من حرف وحرفيين وهالني ما وجدت!

آلمني أن أجد أن معظم الحرف أصبحت في طريقها إلى الزوال، معظم الحرفيين كانوا من كبار السن يقومون بإنتاج ما تعلموه من الأجداد وقلما يبيعون ما أنتجوه، والأبناء يرفضون تعلم مهنه آباءهم لأنها لا توفر مصدر رزق لهم.
قمنا بإنشاء مركزا لتسويق الحرف وتوجيه الحرفيين على تطويرها لتتماشى مع متطلبات الحياة المعاصرة ومن ثم نشر الوعي حول أهميه الحرف واقتناءها. دعمني ماديا في هذا المشروع زوجي المرحوم الشريف ناصر بن جميل. أفاخر اليوم أن عشرات المشاريع الحرفية الناجحة انبثقت بفضل ذلك المركز.

ثم عملت على مشروع متحف الأردن في منتصف التسعينات لمدة تسع سنين ، وكنا لجنة مكوّنة من ٣٥ عضوا ، كل خمسة أعضاء يعملون على جانب مختلف في المتحف ، وكانوا جميعا متخصصون في الآثار . وبعد أن قمت بإقناع السفارة اليابانية بالأهمية الاقتصادية لهذا المشروع قاموا بمنحنا مبلغاً باسم الدولة للمتحف ، ولكن أصبحت هناك خلافات بيننا وبين الدولة حول مكان إقامة المشروع، و رغم الإرادة القوية من قِبل كل عضو بالفريق لإتمام هذا المشروع ولكن السجادة سُحبت من تحت أقدامنا.

صورة لفريقنا مع الفنانة في مرسمها الخاص

 

وماذا عن اهتمامك بثقافه الطفل؟

أسست مع المرحومه مارجو ملاتلجيان نادي أصدقاء الأطفال، قدم النادي نشاطات مختلفة من مسرح ومسرح دُمى ورسم وموسيقى وغرس الأشجار في ما أسميناه بغابة الأطفال واستعملت أساليب الفنون الأدائية الحديثة، وكان أن تعرفت في حينها على الفنانة المرحومة فخر النساء زيد

متى وكيف تعرفتِ على سمو الأميرة؟

تعرفت على الأميرة من خلال العائلة فهي والدة الأمير رعد بن زيد. دعتني عندما استقرت في عمّان لأشاركها في استقبال ضيوفها في الحفل الكبير الذي أقامته في منزلها ودعت إليه المهتمين بالفن في الأردن والسلك الدبلوماسي وسواهم.
أطلعتني على أعمالها وفسرت ما أمكنها تفسيره لأشرحه للضيوف ففعلت. دعتني في اليوم التالي لزيارتها لتعبر لي عن شكرها وكانت المفاجأة الكبرى حينما قالت لي بأنها تود أن تعلمني الرسم.

كنت في صغري قد تعلمت القليل من الرسم وحين كبرت حاولت أن أثقف نفسي عن الفن بالاطلاع على الكتب الفنيه وزيارة المعارض والمتاحف الفنيه كلما سنحت الفرصة لي في أسفاري. في السبعينات من القرن الماضي اقتصرت المعارض الفنيه على بعض المراكز الثقافية لبعض السفارات الأجنبيه وجاليري واحد فقط أردني (جاليري عاليه)
وأوجدت الفنانة فخر النساء مدرستها للفنون الجملية وكان من حسن حظي أنها انتقتني لأن أكون من أوائل طالباتها.

كيف كانت البدايات معها؟

عندما زرتها في ذلك اليوم من عام ١٩٧٦ كانت جالسه فوق كرسيها التركي القديم وأمامها الأوراق والأقلام. وبكل بساطة قالت لي أنها تود أن تعلمني أن أرسم وبدأت في التعليم بطريقه غير تقليدية، كانت تلك الدروس تركز على حركه اليد فوق السطح لتتمكن من الانسياب فوقه لخلق فراغارت وتوزيع الألوان لتتناغم في توازن وتخلق عملا فيه الشروط المطلوبه.

لوحة من المجموعة الخاصة للفنانة

 

هكذا بدأتِ معها؟

نعم بعيدا عن الطريقه الأكاديمية التقليدية أدخلتني عالم الفن وعلمتني الكثير مما تعرف وأذكر دوما بعض مما كانت تقول:
“يا هند أبقي يدك في حركه دائمة أي ارسمي وخططي(سكيتشات) دوما، أرسمي من المخزون الموجود في داخلك مما اكتسبتيه من تعلم وتجارب وأخرجيه بطريقتك الخاصة،
تذكري أن كل ما في الكون يسير بخطوط دائرية؛ الأجرام السماوية تدور بخطوط دائرية، الدم يدور في أجسامنا هكذا بشكل دائري. تعلمي أن وقوفك أمام اللوحة البيضاء هي دعوة تحدي لك للانغماس فيها وتحويلها لما تشائين.
طبعا المثابرة والاصرار هما سر النجاح”

ماذا شعرتِ في أول مرة وقفتِ فيها أمام كانفس كبير المساحه؟

شعرت ببعض التوجس والتخوف من هكذا تجربة لكنني بعد قليل تجاوزت ذلك وأطلقت العنان ليدي وذاتي للتعبير عما أريد. كانت أستاذتي توجهني عن طريق التحليل والنقد وتشير إلى أماكن القوة والضعف في أعمالي إلى أن وصلت إلى مرحلة تحوز على رضاها.
بقيت برفقتها إلى اوآخر حياتها وكنت قد أمضيت سته عشر عاما في معرفتها. ومن آخر تعليقاتها على أعمالي أن قالت لي أن هذه اللوحات تمثل انطلاقة جديده استمري بها.

تعرضت للانتقادات لعدم إلمامي بالناحية الأكاديمية في الرسم، فأخذت دروساً في التشريح ورسم البورتريه والمنظور انا واثنتان من طالباتها من دون علمها لأنها لم تحب لأحد أن يتدخل في عملنا يوماً. تعلمت البورتريه مع الفنان مهنا الدرّة وأيضاً مع فنانة من روسيا ..

لوحة من المجموعة الخاصة للفنانة

 

ماذا أضاف تعلمك الجانب الأكاديمي لممارستك الفنية ؟

لم يضف شيئاً ، اكتشفت بأنني أعرف هذه الأسس مسبقاً ولم يتغير شيء على عملي .

في عام ١٩٨٢ عزمت فخر النساء على عمل معرض يجمع كل منها و طالباتها ، لم يتقبل عملها أي من الفنانين الذكور في تلك الفترة ولم يتعاونوا معها. في الوقت الذي أقيم لها معرضاً شخصيا ضخماً قبل فترة قصيرة من الآن في متحف Tate Modern في بريطانيا ، وتمنيت لو كانت موجودة لمشاهدته! لقد عرضت في متاحف عديدة حول العالم، في أميركا بريطانيا برلين والكثير..

قمنا بعمل المعرض المشترك في قصر الثقافة بالمدينة الرياضية .. بعد هذا المعرض قمت بعمل ثمانية معارض شخصية في فترة الثمانينات ، وكانت فخر النساء سعيدة جدا بإنتاجي الفني .
في التسعينات بدأت بالرسم بحرية أكبر دون الاكتراث إذا كان ما أرسمه مناسبا للسوق أو لا، فقد اتجهت لاتجاهات جديدة وتمردت فيها ..
حظيت على بعض المراجعات النقدية على  مستوى دولي سعدت بها واعطتني حافزا قويا إلى الأمام ، واستمررت بالعمل والإنتاج وما زلت الى الآن .. إن أساس الإنتاج هو المتابعة والممارسة والاستمرارية.

(قامت هند بالإشارة الى عدد من الأعمال المؤطرة والمعلقة على أحد جدران مرسمها وأشارت إلى أنها قامت بإنجازهم في وقت الحظر الكلي من عام ٢٠٢٠)

الأعمال التي أشارت لها الفنانة

 

هل هي من وحي المكان الذي تعيشين فيه؟

ربما تكون كذلك! علمتني فخر النساء أن لا أخرج إلى الطبيعة كي أرسم ، وإنما أن آخذ الطبيعة معي -في رأسي- وأرسمها في أوقات لاحقة .

كيف تغير عملك منذ بداية ممارستك الرسم إلى الآن، من حيث الأسلوب والإلهام ..؟

سُنة الكون هي التغيير ، أشعر بالحزن تجاه كل من يرسم نفس الشيء طوال حياته ، لأن التكرار علامة الانتهاء.. فكل شيء في حالة تغير مستمر .. الطقس، الفصول، وقت النهار، الإنسان، كل شيء في تغيّر.
ولا أتقبل أن يبقى الفنان سجينا لأسلوب واحد أو فكرة واحدة، ليس من طبيعتي أن أكون كذلك، للطبيعة تأثير كبير علي بهذا الجانب ، فهي موجودة دائما في أعمالي حتى التجريدية منها.
ودائما أسعى لتقوية علاقتي مع الأرض، وخاصة في وطني. وهذه العلاقة تؤثر حتما على تفكيري وعملي.

هل هناك حدث معين حصل في حياتك أثر بشكل كبير على عملك وكان فاصلاً فيه؟

الإنسان ليس بمعزل عن الكون ، ولا بد أن يتأثر بالأحداث التي تحصل من حوله ، ولكن هذا لا يعني أن أرسم باللون الأسود مثلا ، في كثير من الأحيان تخرج منك هذه الأحداث التي تعيشها على اللوحة بشكلٍ ما دون أن تكون واعيا بذلك . كل هذا يعبر عن استيعابنا لهذه الأشياء التي تحدث من حولنا ، نأخذها من حياتنا وبيئتنا .

 

لوحة من المجموعة الخاصة للفنانة

لوحة من المجموعة الخاصة للفنانة

 

صورة من مرسم الفنانة