“إذا وضعنا محمد بنعلي الرباطي في إطار الحركة التشكيلية بالمغرب، نجده هو الرائد الأول” محمد السرغيني2

بروح عاشت وسط سنابل الحداثة، وقطفت منها، واقتاتت من محصولها، لكنها لم تتخلّ قط عن الطاحونة التقليدية، هكذا هو محمد بن على الرباطي صاحب الافتتاحية الاستيتيقية في رقعة التشكيل المغربي، وعتبة ممهدة للحداثة الفنية بالمغرب.

سنخرج على منوال العبارة الهايدغرية الشهيرة ولد عاش ومات، ولن نقول ولد بنعلي الرباطي عاش ومات بل سنقف لحظة تأملية نسافر فيها عبر أرخبيلات حياته ونطل فيها على منجزه الفكري الثمين الذي نحفل به اليوم ونحتضنه، وكيف لا وهو المولود البكر لأسرة الفن التشكيلي المغربي الذي كبر واشتد عوده.

سنقف عند مرحلتين، يكون فيهما لقائه مع السير جون لافري البورتريست الرسمي للأسرة الملكية البريطانية وهو يُعتبر العتبة المفصلية التي شكلت الملامح الكاملة للوجه الإستيطيقي لمحمد بنعلي الرباطي ورسمت مخياله* وطبعت وجدانه :

– الولادة: ولد محمد بن علي الرباطي سنة 1861 بالرباط، ورحل عنها إلى طنجة ليستقر هناك وهو ما يزال يافعا، بعد مروره بالمدرسة القرآنية، وتعلمه للحِرف التقليدية على أيدي أحد النجارين.3

‏ – الترحال: استقر الحال بمحمد بنعلي الرباطي سنة 1903، خادما طباخا عند السير جون لافري*، هذا الرسام الذي سيكتشف موهبة بنعلي الرباطي الذي فاقت مهارته في الرسم مهارته في الطبخ وسيحفزه للسير في هذا الاتجاه وتطويره.

صورة لمحمد بن علي الرباطي

صورة للفنان محمد بن علي الرباطي

بعد سنوات من الخدمة في بيت لافري “ظل فيها تحت وصايته وذمته، إلا أنه لم يكن مع ذلك نسخة للسير جون أو صورة مطابقة له، فقد اشترى بنعلي حريته الفنية عن طريق صباغة الحامل* التي تشرب قواعدها على يديه فاستطاع أن يستقل عنه وينتزع الاعتراف به كذات مبدعة، ومن ثمة عرض في لندن، برواق غوبيل سنة 1916، وبمارساي الفرنسية سنة 1919، وفي مدينة الرباط سنة 1922، وبرياض السلطان سنة 1933”4 .

قام محمد بنعلي الرباطي بالنقلة الأولى في رقعة التشكيل المغربي الحديث حسب الكثير من النقاد الجماليين ومؤرخي الفن التشكيلي بالمغرب، أولا لأنه استوفى الشرط الذاتي ووعي ذاته كفنان تشكيلي مدركا موقعه، ثانيا لاعتبارات موضوعية منها استعماله صباغة الحامل أو المسناد chevalet، واشتغاله على “اللوحة الفنية” بمعناها العصري الحديث ، “كفنان مبدع وليس كصانع يتوسل بتقنيات وضوابط حرفية مكرورة كما يعتبر أول من أنجز معارض فنية على منوال المحدثين وذلك ابتداء من سنة 1916”5.

“لم يعرف محمد بن علي الرباطي تعليما أكاديميا في الرسم والفن إلا أن اعتياده على مشاهدة الرسم وتعامله مع عدد كبير من المقيمين البريطانيين بطنجة واحتكاكه مع الرسام لافري أيقظ فيه الرغبة والموهبة لرسم وإبداع رسوماته عبر الألوان المائية التي كانت متاحة له آنذاك.

يعد هذا الرسام أول فنان مغربي قطع مع الفن التقليدي (المنمنمات، الكاليغرافيا الجافة، والفن التزييني ) لهذا يصعب إدراجه ضمن الفن الفطري أو الساذج ، وإن كنا نتحفظ على هذا المسمى ، فأعمال الرباطي تعد تاركة تاريخية مغربية تؤرخ لمرحلة مهمة في التاريخ المغربي الحديث ، ففي تصاويره البهية والدافئة نقرأ تاريخا للحياة اليومية بطنجة وهي في عشرينياتها من القرن الماضي .”6

نستشعر ونحن قد عرفنا الآن مسار حياة بنعلي الرباطي وفهمنا جغرافية حياته، وطالعنا لوحاته، وتطلعنا للأفق الذي كان يرسم فيه، فكرتين متناقضتين مكملتين لبعضهما البعض، الترحال والحضور/الملازمة، فالترحال إن شئنا نصبناه عنوانا لحياة فنان وُلد رباطيا وعاش شغب طنجة ، ثم صفعته ريح أوروبا في القرن العشرين، صقيع لندن ونسيم مارساي …وعلى الرغم من هذا ، يكفي أن ترى منجزات بنعلي (لوحاته) وتطالع هيئته (رجل تقليدي المظهر بلباسه ورزته) للتكهن عبثا أن هذا الرجل لم يبرح مكانه قط. فنتساءل هل سافر بنعلي الرباطي فعلا؟

لوحة للفنان محمد بن علي الرباطي

ليس يكفينا التنقل كي نرتحل، بل ربما لا يلزمنا وهم الحركة ولا حتى صخبها كي ننفصل ونرحل. ذلك أن الترحال، كما يقول دولوز: ” لا يعني بالضبط التنقل ولا الحركة” توضيحا لهذا يقتبس فيلسوف الترحال نصا لتويبني يبين فيه “أن الرُحَّل، بالمعنى الدقيق للكلمة، أي بالمعنى الجغرافي، ليسوا مهاجرين ولا منتقلين، إنهم، على العكس من ذلك أولئك الذين لا يتعلقون بالسهوب. إنهم قارون بخطى كبيرة وفق خط هروب لا يبارح مكانه ” 7. لم يكن إذا بنعلي الرباطي مسافرا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة فقد حضر ولازم مكانه وجدانيا – لاشعوريا، لم يخلع عنه جلبابه، ولم يستبدل صومعات المساجد ب “البيغ بن” اللندنية، ولم يصرفه الترحال عن الطقوس السلطانية والكتاتيب القرآنية.

أمكن لنا ونحن نتخذ مسافات بعد النظر (التاريخية والفنية على وجه الخصوص ) أن نقول أن بن علي الرباطي لا يملك نزوعات بروميثيوسية كغيره من الرسامين الذين إما واكبوا روح عصرهم وخضعوا لها ، أو استسلموا لأهوائهم في التشكيل ، حيث ظل كسيزيف التشكيل المغربي يحمل ثقل الماضي في زمن الحاضر بدون أدنى استراقات جمالية نحو المستقبل ،”فالعالم البصري الذي “سجله” بنعلي الرباطي في لوحاته ، بين سنة  1916 والمنتصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي ، كان غفلا من كل راهنية* ، كما أن المغرب الأنثروبولوجي الذي تنبض به أعماله ، ويقع منها موقع الموضوعة الأثيرة ، كان مغربا فيوداليا ، سلطانيا ، موغلا في التقليدانية ، منكفئا على ماضيه ، لا يمت إلى القرن العشرين بوشجية * “8 ، لكن دعونا نتساءل بصوت جهور هل سيزيف* يمل أو يكل و بن علي الرباطي هو سيزيفنا في هذا المقام ، يقول ألبير كامو “الصراع صعودا إلى القمم كاف وحده ليملأ قلب الإنسان لذا حري بنا أن نتصور سيزيف سعيدا “9 ، وعليه فالمعادلة تقتضي منا أن نتخيل بنعلي سعيدا وهو مواطن القرن العشرين ورسام القرن التاسع عشر في آن واحد.

لوحات لمحمد بن علي الرباطي

كان لمحمد بن علي الرباطي حدس قريب من حدس دولاكروا وماتيس، الأول على وجه الخصوص، الذي اشتهر بلوحاته التي في غالبيتها تصور أُسرا أو جماعة من الناس (فلاحين، مهمشين..) ، وماتيس الذي تأثر بقوة المناخ العربي وبتقاليده .يكون الرباطي قد أخذ حداثته الحذرة من الفن الأوروبي الذي استطاع الاحتكاك به عبر أعمال جون لافري أو المرحلة التي قضاها في لندن ومارساي .

توفي محمد بنعلي الرباطي سنة 1939 ، عن عمر تجاوز السبعين سنة ، مخلفا إرثا ثقافيا فنيا شاهدا على مرحلة تاريخية من تاريخ المغرب الحديث ، ممهدا للحداثة الفنية ، فإن كانت هذه الأخيرة-الحداثة- حسب الطرح الهابرماسي مشروع لم يكتمل بعد ، فإن الحداثة الفنية بالمغرب لم تكتمل إلا مع مجيئ الغرباوي والشرقاوي  من جهة وما اضطلعت به حلقة “65”* من جهة ثانية.

 

الإحالات والهوامش :

1-هذه المقالة عبارة عن مداخلة ألقيت في ندوة علمية برحاب المدرسة العليا للأساتذة بالرباط-المغرب ، تحت عنوان ” الحداثة والفن : أسئلة الفلسفة والتشكيل ” (15- 04 – 2020 ). العنوان الأصلي للمداخلة : افتتاحية ” محمد بنعلي الرباطي” الإستيتيقية ، ( يُقصد بالافتتاحية في الشطرنج أول نقلة للاعبين من بداية اللعب.)

2- عز الدين بوركة، الفن التشكيلي في المغرب من البدء إلى الحساسية، مؤسسة الموجة الثقافية، الطبعة الأولى 2014، ص28.

3- نفس المرجع ، ص28.

4- محمد الشيكر، الفن في أفق ما بعد الحداثة -التشكيل المغربي نموذجا- ، جمعية الفكر التشكيلي، الطبعة الأولى 2004، ص11.

5- نفس المرجع ، ص 12.

6- عز الدين بوركة، الفن التشكيلي في المغرب من البدء إلى الحساسية، مؤسسة الموجة الثقافية، الطبعة الأولى 2014، ص28.

7- عبد السلام بن عبد العالي، الكتابة بيدين، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2009، ص18-19.

8- محمد الشيكر ، الحداثة بصيغة الاستكراه ، مجلة الثقافة المغربية ، العدد 38، شتنبر 2018، ص40.

9- رونالد أرونسون ، كامي وسارتر ، ترجمة شوقي جلال ، منشورات عالم المعرفة ،العدد 334 ، ديسمبر 2006 ، ص1.

* السير جون لافري 1856-1941) ) : رسام آيرلندي ، وبورتريست الأسرة الملكية البريطانية ، اشتغل لديه محمد بن علي الرباطي فترة من حياته .

* المخيال : خيال أو مخيلة .

* صباغة الحامل (Chevalet)  : المقصود بها المسناد أو حامل لوحات الرسم .

* غفلا من كل راهنيه: بعيد عن الوضع الراهن-الحالي .

* بوشجية: رابطة

* سيزيف : سيزيف أو سيزيفوس شخصية أسطورية من الميثولوجيا اليونانية ، استطاع أن يخدع إله الموت “ثانتوس” مما أغضب كبير الآلهة “زيوس” فأنزل عليه عقابا يقضي بأن يدحرج صخرة ضخمة إلى أعلى الجبل ، فما تلبث أن تسقط عليه ، وهكذا ظل إلى الأبد فأصبح رمزا للعداب والعبثية …

   * حلقة “65” : “حلقة مدرسة الفنون الجميلة” في الدار البيضاء، التي كانت تضمّ فنّانين من عيار فريد بلكاهية ومحمد شبعة ومحمد مليحي ومحمد حميدي ومصطفى حفيظ. وقد لعب مجموعُ هؤلاء الفنّانين،يقول محمد قاسمي، “دورًا مهمًّا على المستوى البيداغوجيّ (التربية البصريّة) وعلى صعيد صياغة المفاهيم الفنّيّة .والحد من التأثير الأجنبي (الاستعماري) في هذه الصياغة.

  • المراجع والمصادر :
  • محمد الشيكر، الفن في أفق ما بعد الحداثة -التشكيل المغربي نموذجا- ، جمعية الفكر التشكيلي، الطبعة الأولى 2004.
  • عز الدين بوركة، الفن التشكيلي في المغرب من البدء إلى الحساسية، مؤسسة الموجة الثقافية، الطبعة الأولى 2014.
  • Zineb abderrazik chraibi , Mohamed ben ali r’bati (Naissance de la peinture marocaine 1861-1936) Edition marsam , 2007 .