التعايش مع الفن – ثماني قناعاتٍ يعيشها كل فنان – إنه الجزء الثاني من كتاب “ثورة الفن” لمؤلفه : أحمد حسن مشرف، والذي شاركتكم بملخص ٍ سابق في حديثه عن حياة الفنانين من خلال بحثه و قراءاته في سيرهم المُلهمة. آمل أن أكون قد وُفقت في مقالتي الأولى و أن تكون قد لامست شغاف قلوبكم المزهرة. (لقراءة الجزء الأول من المقال من هنا)

إن أرواح الفنانين -من وجهة نظري الشخصية- لهي الأكثر نعيما وإشراقا في ظروف عالمنا الحالي. فهنيئا لنا بهذه الأرواح المُحلقة باتجاه السماء السابعة، والتي تُعبر الشفاف عمّا وهبنا إياه الرب من ومواهب فنية متفردة ومُترفعة عن كل شيء.

 

 القناعات الثمانية للفنان 

أولا: لا وجود للإلهام : المبتدئون ينتظرون الإلهام، أما نحن فنستيقظ كل يوم لنعمل.  -ستيفن كينغ

عندما تسأل فنان متميز عن سر الإلهام في عمله، ربا يقول لك بعض ما يصاحبه ليصل إلى ما مصل إليه من إنجاز، لكنه سيؤكد لك أن الإلهام يُخلق مع العمل، يُخلق مع الشغف والرغبة المُلحة لتحقيق الأحلام ولا يُخلق عند استيقاظك من النوم لينجح دون معطيات متعددة. في نظر الفنان فإن الإلهام حجة الهواة لا سر الناجحين، حتى وإن امتلك البعض منا ذلك العقل الذي يخلق الإبداع فإن الإلهام هو مكافأة العمل والتفكير المتواصل، وهو ما يُتقنه كل فنان عند اقتناعه بعدم وجوده من الأساس في أصل النجاح، فليست هناك طريقة واضحة للحصول على الإلهام بناءا على “ستيفين بريسفيلد” في كتابه “حرب الفن” بل ويرىأن ما على الفنان إلا أن  يعمل يوميا ليحصل على الإلهام، فالمحاولات هي التي تصنع فارقا حقيقا.

 

ثانيا: الحُب : حتى إن لم أرى النتائج، فشعور الحُب يكفيني.

لن ترى أي إنجاز في هذا العالم دون حُب صاحبه له، ولن نعيش ساعات التواصل الاجتماعي دون إخلاص وحب أصحابها لها وقت بناءها. الحب هو المقياس الأول وليس النجاح، لأن معظم الفنانين عاشوا الحب مع فنهم قبل أن يعيشوا النجاح.

الفن هو -بتعريف ما- صبر كل فنان على حبيبه إن جفا، هو العيش من أجل هذا الحب وهذه القضية، ويُترجم الحُب في إجابة كُل من يُنجز فنه بحب عند السؤال :ماذا كنت تتخيل أنك كنت لتكون لو لم تكت فنانا؟ فيجيب: “لا أريد أن أتخيل” أو “لماذا تعتقد بأن علي أن أتخيل ذلك؟” لهذا فإن الفنان هو الشخص الذي يعيش حالة اكتئاب أو خذلان عند الإجازات أو إبعاده عن عمله، وذلك لأنه يعيش حالة خاصة أو حالة تأملية خلالها.

 

هل نُحب أعمالنا؟

تخيل معي الآن.. ماذا لو لم يكن المال هو الهدف -كما يقول آلان واتس- ؟! كيف ستكون حياتك؟ ماذا ستفعل؟ كيف ستقضي يومك؟ لِمَ لا نعمل بهدف الوصول لتلك الحياة التي لا يكون فيها للمال أو الماديات أي تأثير ؟ وقتها ووقتها فقط سنعيش حياتنا كما عاش الفنانون في الماضي مع إنجازاتهم، أن تُذكر نفسك بالحب وسط العمل و تحديدًا وسط أتعس لحظات العمل هي التي ستصبرك على الإرهاق، فكيف سأستمر إذًا إن لم يكن هناك قصة حب ؟ حتى و إن كان معيارها يزيد و ينقص مع الوقت ؟ .

 

ثالثا: الروتين: لن تستطيع تغيير حياتك ما لم تغير شيئًا ما كنتَ تفعله كل يوم , السر في نجاحك الشخصي يختبئ داخل روتينك اليومي – زيج زيجلر.

لعل من أصعب القرارات التي تقررها هي أن تقرر : أن تبدأ و بعد خطوة البداية يزداد الأمر تعقيدًا مع المزيد من الالتزام , و هنا يكمن دور الروتين في استقرار مخرجات قرار البداية . لا يوجد فنانٌ ناجحٌ دون روتينٍ وفق ضوابط إنتاجية محددة كل يوم. لأن كل شيءٍ في حياتك يجب عليه انتظارك إلا الأحلام , تنتظر كل يوم أن تخطو خطوةً إليها . و أيًا كانت ظروفك ستكون تحت رحمة الآخرين ما لم تصنع يومك و روتينك الخاص بالعمل , و بالطبع أن تُلزم الجميع و نفسك به.

يستيقظ “ستيفن كينج ” كل يومٍ ليبدأ عمله الساعة الثامنة صباحًا , يستمع لنفس الموسيقى و يشرب نفس القهوة و يجلس نفس الجلسة ليقول لنفسه كل يوم : ” الآن ستبدأ حلمك “.
يكتب “إرنست هامينجواي” الحائز على جائزة نوبل للآداب كل يوم خمسمائة كلمة فقط لينهي بها يوم عمله، كل يوم دون توقف.
الروتين يؤطر العقل و العمل و يلزمك بتنفيذ ما يحب عليك تنفيذه دون مبالغات. يقضي الروتين على المفاجئات غير السارة , و على مهام اللحظات الأخيرة , حتى و إن كانت تواجهك منذ فترة , سيتمكن جميع من حولك من الانسجام مع روتينك الشخصي ؛ ليمرروا احتياجاتهم من خلالك. إن كلمة روتين لدى البعض تمثل الملل اليومي الذي يعيشونه , لا أخفي حقيقة أن ذلك الانطباع السلبي كنتُ أعيشه منذ سنٍ مبكرة , كنتُ أتخيل أن الروتين يتمثل بذهاب الموظفين كل يومٍ إلى العمل أو الاستيقاظ المبكر للبدء في يومٍ آخر من عملٍ ممل , وكنتُ أرى كذلك بأن لروتين كلمة تمثل الجحيم بحد ذاته , و لعل هذا الانطباع السلبي اختفى الآن بعد أن علمتُ أن كل إنسان يمكن له أن يؤسس روتينه الخاص أيًا كان عمله أو دوره في الحياة و تأكدتُ أن الروتين ليس مملًا بالضرورة إن كان مخصصًا للوصول إلى أحلامنا و باختيارنا لتفاصيله.

لقد آمنتُ بأن الروتين يعني أن أتحكم بحياتي.

 

 

رابعا: 10000 ساعة

تحدث الكاتب المعروف “مالكوم جلادويل” في كتابه “الخارقون – The Qutliers” عن مفهوم الـ 10000 ساعة عمل , و التي تناول من خلالها تلك الإنجازات غي المسبوقة لبعض أهم المشاهير خلال العقود الماضية ،و حقيقة السبب وراء إنجازاتهم الاستثنائية الخارقة. و بطبيعة الحال فإن غزارة الإنتاج لن تأتي قبل التغلب على المخاوف من مواجهة الجمهور بالفن أولًا أو حتى مواجهة الفئة المقربة من الأصدقاء و العائلة. وهنا نجد أن ممارسة الفن للوصول إلى الغزارة التي تقودنا للجودة تتطلب بعض التضحيات قبل الوصول لنجاح منقطع النظير.

التغلب على الخوف = بداية ممارسة الفن
تقبل الانتقاد = الاستمرارية في الممارسة
الوصول لعشرة آلاف ساعة عمل = الاحترافية / النجاح.

____________________________________________________________________________

“أشعر أن عشرة آلاف ساعة … كعشرة آلاف أيادٍ تحملني”
“لا أعلم إذا كنتُ قد نجحتُ بالفعل … لكنني أعلم أنني في كل يومٍ أغني … أشعر أنني اقتربتُ خطوةً من العشرة آلاف ساعة”.
– مالكمور”مغني الراب – من أغنية عشرة آلاف ساعة”

إن الممارسة المستمرة و العمل المتواصل و غزارة الإنتاج ستغطي على الكثير من العيوب , و لأن الإتقان لا يصل إلا بالتدريب وقتها فقط , ربما ستصل إلى النجاح . و حتى إن كان البعض منا لا يملك بالفعل أي مهارةٍ أو فكرةٍ جديدة ليتعايش مع فنه , قد يكتفي بالسير وراء حدسه الذي قد يخفي الكثير من الحب اتجاه فنٍ أو مبادرةٍ
ما لم يمر بها من قبل.
” أن تبدأ … يعني الوصول لمنتصف أي فعل”  – ستيفن كينج.

 

خامسا: تسعة من عشرة محاولات تفشل

سمعتُ أحدهم يقول لي ذات يوم: نقرأ عشرة كتبٍ، ليضيف تسعةٌ منها لعقلك بعض المعرفة، و يغير الكتاب العاشر حياتك بشكلٍ جذري. رسم “بيكاسو” أكثر من ثلاثة آلاف لوحة لم تنجح كلها , وكتب ستيفن كينج أكثر من مئةٍ و ستين عملًا خلال مسيرته , ليحصل فيلم “سجن شاوشنك” على عدة جوائز أوسكار كمكافأةٍ لجهوده بعد طيلة العقود الماضية من العمل.
أعلم انني عندما أكتبُ مقالاتي اليومية سأساهم في تغيير حياة أحدٍ ما، و إن كنتُ أعلم في المقابل يقينًا ان معظمها لن يغير حياة الكثيرين، أو ربما لن يقرأها أحد، لكن أجد أن الدافع الوحيد نحو الاستمرارية هو الوصول لتغيير عدد ممكن من الناس. لا أجد أن هناك مشكلةٌ حقيقيةٌ إن علمنا أن تسعة من عشر محاولات ستفشل ؛ فإحساس الحب سيكفي , نعم الشعور بالحب نحو فنوننا أفضل بكثيرٍ من أن نعيش تحت رحمة ظروفٍ لا نريدها لأنفسنا , أو تحت إدارة شخص أحمق، بل وأفضل من أن يمضي بنا العمر و نحن لا نعلم إن كنا
نعيش أحد فنون الحياة بأهدافها. أعلم أن كل المحاولات ستقربني من النجاح , بل ربما يطول الأمر بتنفيذ عشرين محاولة لتنتهي بمحاولتين تشعل العالم من نجاحها .

 

سادسا: الاستسلام والتسليم

-“إن أردتَ أن تكون كاتبًا ناجحًا عليك أن تقرأ كثيرًا و تكتب كثيرًا … لا أعرف طريقًا مختصرًا غير ذلك”.

– ” إذا لم يكن لديك الوقت لتقرأ , فليس لديك الوقت -أو الأدوات- لتكتب ببساطة”.

-” لستُ سريعًا في القراءة , لكنني أقرأ ستين كتابًا تقريبًا خلال العام , معظمها روايات , و شكرًا لثورة الكتب الصوتية التي سهلت هذه المهمة علي ايضًا , و في الحقيقة أجد قراءة الكتب السيئة تفيدني أكثر من الكتب الجيدة , فعندما انتهي منها أقول لنفسي: ” تستطيع أن تكتب أفضل من ذلك ”

– ستيفن كينج.

الاستلام والتسليم يضمن بقاءنا على الخط الصحيح، يُساهم في معرفة العوالم الأخرى، و يكسر احتمالية النسيان. الاستلام و التسليم هو أن تشاهد لوحاتٍ كثيرة و تحضر معارض عديدة خلال العام إن كنتَ تريد أن تصبح أحد الرسامين الناجحين، و أن تعمل في مجال الاستثمار مصاحبًا كبار الزبائن و السماسرة إن كنت تريد أن تتعلم آليات و خبايا الاستثمار.
الاستلام و التسليم هو: أن تُلزم نفسك بالتعلم حتى و إن أصابك الملل , أن تعيش زخم الفنون بالهرب من الرتابة. كيف سنتعلم أسرار المهنة إن كنا نرفض استقبال علمها ؟.

 

 

سابعا: المقاومة

هل رأيتَ شيطانكَ من قبل ؟ ايأتيك شيطانٌ في العمل و يقول لك : لن تستطيع إنجاز عملك أو البدء في مشروعك! أو الانتهاء من كتابك الذي لم تكتبه بعد , لا … لا … بل يأتيك في عدة صورٍ، ويأتيك في قنوات التواصل الاجتماعي ليصور لك أهميتها عن العمل ويقنعك بأعمالك المستعجلة عوضًا عن الأكثر أهمية. أراه كل يوم، أراه يتشكل أحيانًا على شكل دقائق نومٍ إضافية أو مأكولاتٍ غير صحية.،  أراه في مرضٍ مزيف يبعدني عن المكتب و قد رأيته كثيرًا في شكل عروض تتسويقية لفنادق خارج البلاد، لا يتمثل شيطاني في صورة أصدقائي المقربين أبدًا، بل يبحث عن بعض الفراغات في كلامهم،  ليذوب داخلها و يقودني للمزيد من الترفيه، يعشق ساعات الراحة، وينجز الكثير فيها.. يكره الصباح الباكر، و يقنعني بضرورة السهر كل يوم و رغم ذلك.. أجده سهل المنافسة! فقد تغلبت عليه بعض المرات عندما قررتُ فقط التغلب عليه، بل تكمن الصعوبة بالاستمرار في التغلب عليه كل يوم، والأهم من ذلك كله … أنني رأيته فقط !

أن تقاوم … مقاومة المخاوف، مقاومة الأفراد السلبيين، مقاومة مشاهدة التلفاز، مقاومة النوم الزائد عن الحاجة، مقاومة التغريدات و مراقبة البريد الالكتروني في كل دقيقة. يعد “ستيفن كينج” الأب الروحي لهذا المفهوم.

” أخبرني كيف خطرت لبالك فكرة المقاومة ؟ كيف أطبقها و أعيشها ؟ – كانت هذه أحد أهم تساؤلاتِ ” أوبرا وينفري ” عندما التقت به، ويجيب دومًا عن المقاومات بزاوية طريفة أذكر منها: “الهواة يغردون، والمحترفون يعملون”.

 

ثامنا: المشي والرياضة

لا أعلم حقيقةً إن كانت عادة المشي التي ارتبطت بمعظم طقوس الفنانين الذين اطلعتُ على حياتهم بهدف الرياضة أو الصحة لمجرد الصحة، لكن أعلم أنها عادةٌ مشتركة عند معظمهم.

يمشي الدكتور “واين داير” أحد أهم العلماء الروحانيين و تطوير الذات ثمانية أميال منذ أكثر من ثلاثين عامًا كل يوم، و يمشي “ستيفن كينج” لفترةٍ طويلة أيضًا كل يوم، كما ذكر في أحد كتبه. و يلعب رجل الأعمال الإماراتي “خلف الحبتور” رياضة التنس كل يومٍ فترة الظهر -حتى في شهر رمضان- حسب ما ذكره في سيرته الذاتية،  بل و يحرص على تعريف نفسه دومًا كرجل أعمال و لاعب تنس!

– “أملك طبيبين: قدمي اليمنى و قدمي اليسرى.” -جي. أم .ترافليان (مؤرخ إنجليزي).
– “مجموع الكل: هو أن تمشي و تكون سعيدًا، و تمشي لتكون صحيًا.” – تشارلز ديكنز.

– “لا شيء يماثل التنزه علىالأقدام ليلًا للحصول على الأفكار”. -جي.كي. رولينج (كاتبة إنجليزية)

– “ليس الكلام , بل المشي هو من سيوصلنا إلى الجنة”  – ماثيو هينري

ماذا بعد ؟
عندما نعي العناصر الثمانية في نمط حياة الفنانين , و التي ساهمت بصنع الفنون الاستثنائية , نكون قد وضعنا أيدينا على الأدوات. أفضل ما يمكنني قوله أن بتطبيق هذه العناصر سنتعايش مع عقولنا و حياتنا بأفضل ما يمكن لنا أن نعيش به.

 

كتبته بتصرف : مها الشهري