صورة لشناشيل البصرة، عمارتها المميزة وهي تتعرض للتشويه والتخريب

تشيع على مسامعنا وتردد كثيراً: “تُصلح الرياضة ما أفسدته السياسة”

شخصياً لا أتفق وهذه المقولة فبرأيي تفسد الخلافات والصراعات السياسية وسوء استخدام السلطة كل شيء. وتجر المجتمع لويلات لا تُحمد عقباها، ولعل ما أفسدته السياسة والخلافات بين البلدان، في مجال الرياضة، لا يغيب أو يخفى عن المتتبعين والمهتمين بالشأن الرياضي أو السياسي. ليس هذا المقال موضع لذكرها بالتفصيل فقط أوردتها كمثال وبوابة دخول للإشارة إلى المجالات الأخرى الحياتية والاجتماعية العامة التي تفسدها السياسة وتخربها. وهذا ما حدث بدءً من عام 1990حتى عام 2003 والتغيرات السياسية التي حدثت وألقت بظلالها على مجمل الحياة العراقية عامة، وفي مجال العمارة خاصة؟

كمولع بفن العمارة سنحت لي القراءة والمطالعة في هذا المجال قدرة على تلقي وتذوق البعد الجمالي والاجتماعي لعمارتنا المحلية بعين فاحصة ناقدة ومقارنتها بالفترات التي سبقتها، بما يسمح به النضج العمري والعقلي حينها بتشخيص وملاحظة مثل تلك الأمور. ومن بين كثير من الملاحظات التي سجلتها، هي التداخل غير الطبيعي والعشوائي بين وظيفة المباني السكنية والمباني التجارية، لحد إزالة الخط الفاصل بين المنطقتين. فكثير من المناطق السكنية فقدت طابعها التنظيمي الصارم الذي يحفظ الخصوصية العائلية والفردية، حيث الهدوء، والسكينة، والحركة المحدودة في الشارع. بعكس المناطق التجارية ذات الطابع الجماهيري والتي تمتاز بالحركة المستمرة والضجيج والتواصل غير المنقطع.

بنظرة فاحصة سريعة على مناطقنا السكنية في محافظة البصرة، تجد انتشار محلات المواد الغذائية والمنزلية بكل صنوفها وأشكالها في هذه المناطق وتداخلها مع المنازل السكنية لدرجة أن المدينة بدأت معها تفقد طابعها الوظيفي التي صممت من أجله. ففي بعض المناطق تم تغيير جنس البناية بالكامل، فقد هدمت كثير من البيوت في أحياء سكنية راقية، ذات الطابع التصميمي المميز لتُحول إلى محلات أو عيادات للأطباء، كذلك تم تحوير كثير من البيوت لتصبح مقر لشركات أو معاهد أو ما شابه.

في هذا الشارع تم تحويل أكثر خمسة بيوت إلى محلات (أسواق لبيع المواد الغذائية-محل تصليح مكيفات التبريد-محل لصناعة الألمنيوم-محل موبليات-شقق سكنية)

ظاهرة التداخل هذه لم تكن وليدة اللحظة الراهنة فهي امتداد لفترة التسعينيات من القرن الماضي، بعد فرض الحصار الاقتصادي على العراق ونظراً لسوء الحالة المعيشية لكثير من أفراد المجتمع، أضطر بعضهم لاستثمار المساحة الخارجية -الحديقة- للدار بفتح محلات صغيرة من السياج الخارجي المواجه للشارع، كدخل إضافي يعينهم على مصاعب الحياة الاقتصادية. هذه الخطوة كانت محدودة جداً ومقتصرة على شريحة معينة من أفراد المجتمع، لكنها كانت لحظة البداية لهذا الخراب الذي نعيشه اليوم.

بعد عام 2003 ورغم التحول الاقتصادي الكبير الذي طال غالبية أفراد المجتمع إلا أنه كان تحولاً غير مدروس، فوضوي صنع فارقاً طبقياً كبيراً، كذلك خلق طبقة من محدثي النعمة همها الربح والكسب، أضف إلى ذلك أن المواطن رغم تبدل الحال بقي مسكون بهاجس الفترة السابقة -فترة الحصار والخوف من المجهول- وعدم الاكتفاء والقناعة بالموجود باحثاً عن مزيدٍ من مصادر الأموال والدخل، وهذا يجعل التفكير بالربح وتأمين المستقبل أكثر من اللحظة الراهنة التي نعيشها مما ألقى بظلاله على البنية المعمارية للمناطق السكنية، فازدادت المحلات والعمارات التجارية في المناطق السكنية، حتى أن بعض المناطق أضطر كثير من أهلها عرض بيتوهم للبيع بسبب الضجة والزحمة وفقدان الراحة والأمان التي أحدثتها هذه التغيرات. وتقلصت المساحات الخضراء وهدمت بيوت ومبانٍ شكلت جزءً مهماً من ذاكرتنا الجمالية وبقينا نشعر بانقباض وحسرة عند المرور بموقع هذه الأماكن.

  

مجموعة الصور هذه تظهر حجم التشويه، حيث تم تحويل واجهات البيوت أو تحويلها بالكامل إلى (مخازن، مقارٍ لشركات، فنادق، محلات، عيادات للأطباء وصيدليات…..)

في لقاء متلفز تحدث الأكاديمي والمعمار الدكتور خالد السلطاني عن أن “العمارة قرار سياسي” … من المؤكد أن الظروف غير الطبيعية التي مر بها العراق من عام 1990 وصولاً إلى يومنا هذا تجعل العمارة والأهتمام بها أبعد ما يكون عنها قرار سياسي، فالقرار السياسي مشغول بالصراعات والخلافات والمزايدات لذلك كانت نتائج هذا القرار نتائج سلبية في مجمل الحياة العامة، والمجال الجمالي خاصة. وإذا كانت العمارة هي إنعكاس لطبيعة الأنظمة وسياستها في المجتمع، فهي من المؤكد تصبح إنعكاس لطبيعة المجتمع الذي تنتجه وتصنعه هذه الأنظمة كذلك.

غياب الخطط الحكومية واستراتيجياتها في مجال العمارة وبناء المدن أفقد العمارة ظاهرتها الاجتماعية وأصبحت جزءً غير مهم من اهتمامات المواطن، وبالتالي تشوه الأثاث الحضري للمدينة وتشوهت الذائقة الجمالية للناس.

وجود ذائقة جمالية (معمارية) مجتمعية أراه مرهون بوجود طبقة وسطى (إنتليجنسيا) هذه الطبقة تجعل الحاجة للعمارة حاجة اجتماعية وليست حاجة نخبوية، بما يحقق ثراء المشهد العام للمدينة، ويخلق إحساس بقيمة العمارة مجتمعياً. فالمتابع للعمارة العراقية وتطورها في خمسينيات القرن الماضي وما تلاه يلاحظ وجود مثل هذه الطبقة، حيث أنتجت ذائقتها بالاستعانة بخيرة المعماريين العراقيين، أبنية مثلت منازل سكنية خاصة وعمارات تجارية أو سكنية، شكلت فارقاً جمالياً مميزاً لعمارتنا المحلية.

معروف أن الحروب والاضطرابات السياسية التي تمر بها البلدان تُغير كثيراً من قيم المجتمع، وتكون نتائجها كارثية وربما يصعب التخلص منها خلال فترة قصيرة، فالأمر مرهون بوجود نخبة سياسية خالية من العقد والهموم غير مأزومة بأمراض العظمة والتسلط والتوسع، تعطي لتفكيرها واهتماماتها مساحة كافية لرعاية الفنون والجمال وترسيخ قيمها سياسياً واجتماعياً، فالعمارة وكل الفنون هي “قرار سياسي”.

لنا وقفات أخرى عن أثر التحولات السياسية على عمارتنا المحلية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في مجموعة الصور التي عُرضت عينة بسيطة جداً من الواقع ألتُقطت بصورة عشوائية من مناطق تعتبر أفضل، مقارنة بالمناطق الشعبية المأهولة بالسكان والتي يصعب التصوير فيها لاعتبارات اجتماعية وأمنية؛ وهي في وضع يرثى له ويصعب تصديقه.