مجموعة من الخيوط تخيطها أيادي النساء من بلادنا لينقلن هوية وروح الأرض من قلوبهن ويختزلنها في قطع من الثياب تُرافقهن باختلاف ظروف حياتهن!

قد يبدو الحديث عن الملابس أو ما يرتديه البشر عموماً موضوعاً عابراً وعلى هامش حوارات أخرى، لكنه بالتأكيد ليس كذلك في منطقتنا العربية، فهو ثقافة قائمة بحد ذاتها. لباسنا هو ذكرياتنا التي بُنيت تراكميا  كشعوب لتعطينا صورة عن هوية جمعية واحدة كبيرة، تفرّعت وتنوّعت بتنوع ظروف حياة القبائل والفلاحين والبدو الرُحل في كل مساحة صغيرة، وعبّرت بطريقة مُدهشة عن ظروف حياتهم الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية.

في الأربعينيات كانت وداد الطفلة الصغيرة تُراقب السيدات في القُرى وهن يجتمعن بانتظام في البيوت لتطريز الأثواب. أثار فضولها اختلاف أشكال الأثواب وألوانها باختلاف المناطق والظروف الاجتماعية للنساء. ليبدأ شغفها اتجاه التراث عموماً، واللباس التراثي على وجه الخصوص.

وداد قعوار هي باحثة ومؤرّخة ومُختصة بالتراث، ولدت في طولكرم عام 1931م، وانتقلت مع عائلتها إلى برمانا (قريد لبنانية) ثم إلى بيت لحم، وتلقت تعليمها في رام الله. رفدت كل هذه التنقلات -في مُدن فلسطينية ذات أهمية وثِقل ثقافي- وداد الصغيرة بثقافة واسعة والكثير من الفضول والأسئلة، ومن هُنا بدأت رحلتها المُبكرة بالبحث.

 

 

في العام 1967 -كالفلسطينيين جميعًا- شاهدت وداد وطنها مُحتلاً، مما دفعها للمسارعة باقتناء قطع ملابس أصلية من مُدن وقرى عديدة بهدف الحفاظ عليها وأرشفتها، مُدركة بأن يد الاحتلال ستبطش بكل ما هو جميل على هذه الأرض. إضافة لإدراكها أن الوضع الجديد من شتات للفلسطينيين ونشوء مخيمات اللجوء سيُحدث -بلا شك- تغييراً على شكل الثوب لكل منطقة كجزء من تحوّل ثقافي واجتماعي أكبر، وقد تُستحدث أشكال جديدة مختلفة عمّا كان يُعرف سابقًا.

 

في زيارة خاصة للسيدة وداد قعوار حدثتنا حول رحلتها الطويلة في البحث عن الجمال والتراث في المنطقة العربية، وقالت: “لا فرق بين الفن والتراث بمنظوري الشخصي، ويجب إعطاء التراث الاهتمام الذي يستحق، فالتراث هو التاريخ والتاريخ هو نحن، وبعد ذلك يمكننا الاهتمام بأي فنون أخرى، لا سيما في ظل الاستغلال والسرقة الذي يمارسه الاحتلال لتراثنا بأنواعه المختلفة.”

متى بدأ اهتمامك بالتراث؟

اهتمامي بالتراث كان منذ طفولتي، لكنني بدأت التحرك بشكل جدي بعد حرب في 1948 أي بعد النكبة مباشرة، رأيت القرى تنتهي وتنهار على يد الاحتلال، نساء أعرفهن بدأن بالاختفاء ولم أعرف أي شيء حول مصيرهن، وكانت هؤلاء النساء بنظري مصدر أساسي لتراث غير موثق أبدا. الأمر الذي قد يفتح للمحتل بابًا لاستغلال مواردنا وكل ما نملك، وهو ما دفعني للتفكير بضرورة أن أبدأ بالأرشفة حتى أُوثق حقوقنا وما يمثل تاريخنا وتراثنا، وهذه مسألة خطيرة جدًا وذات أهمية كبيرة.

 

 

حدثينا عن البداية، ما الذي دفعكِ للبدء؟

بدأت بما أثار اهتمامي دوما.. الأثواب والملابس، أخذت على عاتقي توثيق الثوب في فلسطين ومنها انطلقت للمنطقة العربية عمومًا. جمعت الكثير من القطع المُطرزة، وقرأت وبحثت حول كلٍ منها ونسبتها كلٍ لمنطقتها، مثل رام الله، يافا، الخليل وغيرها. لكن القُرى كثيرة ولم أتمكن من حصرها كلها، وكنت في ذلك الوقت أسكن في بيت لحم، وعزمت على بدء العمل بشكل مُنظم أكثر.

فكرت .. ما العمل؟ فسمعت عن قرويات أعرفهن بدأن بيع أثوابهن بسبب الحرب والظروف الاقتصادية الصعبة، فاشتريت منهن هذه الأثواب بهدف الحفاظ عليها، وهكذا بدأ الأمر.

 

كيف نضمن استمرار الحفاظ على تراثنا؟

علينا البدء بتعليم الأطفال ونقل تراثنا للأجيال الجديدة، وهذا مهم جدًا لاستمرارية الحرف التقليدية والفنون وعدم انقطاعها، وهو بذات أهمية التوثيق والأرشفة، فالاحتلال الاسرائيلي عمل على إنشاء مراكز تعليم ومتاحف بأقسام متخصصة يسلبنا فيها تراثنا الأصيل في كل من الأردن وفلسطين وينسبها له بلا أي خجل، بصورة من أبشع صور الاستلاب الثقافي. مسؤوليتنا كبيرة جدًا في توثيق وتعلم كل ما هو لنا، وعلينا معرفة تاريخ هذا التراث وسبب ظهوره وكيف يرتبط بالإنسان والأرض قبل أي شيء آخر.

 

ماذا عن المتحف “طراز” كيف بدأت الفكرة؟
بعد أن جمعت عدد كبير من الأثواب وكمالياتها، بدأت الجهات الرسمية وغير الرسمية بطلب إقامة معارض لمجموعتي الخاصة، وبالفعل عقدت العديد منها بشكل متكرر وفي أماكن مختلفة، حتى بات الأمر مُتعبًا ومُكررًا بالنسبة لي، فراودتني فكرة عرضها في بيت أو مكان واحد، وهذا ما حدث تمامًا، استثمرت في بيت في عمّان حولته إلى متحف تم تقسيمه إلى قسم فلسطيني، وقسم أردني، وأضفنا له لاحقًا القسم السوري. يستعرض المتحف في أقسامه أشكال وأنواع مختلفة من الأثواب واكسسواراتها مع نَسبِها لكل قرية ومدينة، كما يتضمن أعمال النسيج والحياكة الفريدة التي تُنسب في أغلبها للأردن.

 

 

-كيف تقومي يجمع هذه القطع؟
تختلف الطريقة من قطعة إلى أخرى، في حالة القسم الفلسطيني مثلاً فقد بدأته من خلال تجميع قطع لنساء من دائرة علاقاتي وعلاقات أسرتي، واستمرت ذات الطريقة كذلك خلال إقامتي بالأردن، أما القسم السوري فقد سافرت مرات عديدة على الشام بهدف اقتناء وجمع القطع، وقد يبدو السرد بهذه الطريقة سهلا، لكن في الواقع كانت رحلة طويلة مُضنية تضمّنت الكثير من البحث والأسئلة.

 

-ما هي الصعوبات التي واجهتِها خلال هذه الرحلة؟

لم يكن الأمر سهلاً أبدًا، فقد تطلّب مني التنقل باستمرار لتحصيل المعلومة الواحدة، والسؤال المُكرّر عن كل معلومة للتأكّد من صحتها، فعلى سبيل المثال لا يتم توثيق أي معلومة واعتمادها إلا من بعد سماع إجابة واحدة من 3 مصادر مختلفة على الأقل. وهذا ما تعلمته من بعض الصحفيين العرب والأجانب، أي أن أطرح الأسئلة بالطريقة الصحيحة، وأتأكد من صحة معلوماتي، وأوثقها.

ناهيك عن صعوبات أخرى تتعلق بالوصول للمعلومات أحيانًا، فعلى سبيل المثال كانت المعلومات حول ثوب مأدبا غير واضحة تمامًا، ولا زال إلى الآن يحتاج المزيد من البحث والتنقيب حول طبيعة لباس أهل المنطقة، وقد يعود ذلك لكون مأدبا مركز مهم للدولة المؤابية تاريخيًا، وتعاقب الثقافات عليها عزز من احتمالية تغير شكل الثوب وتنوعه. ومن الجدير بالذكر هُنا بأن الأثواب الأردنية عمومًا تحتاج المزيد من الاهتمام والبحث حولها، وذلك لقلة المعلومات وجهود البحث على الرغم من جماليتها العالية، بالإضافة إلى حرفة الحياكة التي تكاد تستفرد بها مأدبا كذلك.

 

-حدثينا أكثر عن ارتباط طريقة اللباس وأشكال الأثواب بالمكان، واختلافها باختلاف القُرى والمدن.

ظروف عديدة قد تُغني شكل الأثواب ونمط تصميمها والتطريز الذي يرافقها، فما ذكرناه عن مأدبا هو مثال حول كيف يتأثر اللباس بعدد الحضارات وتنوعها على ذات الأرض. وكمثال آخر فإن مدينتا اللد والرملة وقعتا على طريق السياح المؤدي لزيارة القدس، مما أظهر أثواب جديدة بمميزات خاصة تم استحداثها تلقائياً كنتيجة لهذه الظروف.

وترتبط الأثواب -بأشكالها وخيوطها وما يتم تطريزه عليها- بصعوبة الحياة أو سهولتها، أو حتى بسُرعتها وبُطئها، فمثلا أثواب الفلاحات في القُرى تختلف عن أثواب البدويات في الصحراء، وكذلك اختلاف نمط الحياة وطبيعة الموارد المتوفرة وعوامل أخرى كثيرة تلعب دورا بتشكيل نمط الأثواب. تماما كما يختلف كل من الثوب الأردني والفلسطيني عن بعضهم البعض من ناحية النسيج وشكل القطب والأسماء الشعبية لها.وسترونها جميعًا في المتحف. 

 

حول “طراز:بيت الثوب العربي”

يُعتبر “طراز” أصغر متحف يضم أكبر مجموعة من الأثواب العربية، والتي يصل عددها إلى 3 آلاف قطعة تراثية بين الأردني والفلسطيني والسوري وبعض القطع الأخرى من الحجاز وتونس وغيرها.

أخذت السيدة وداد ما يقارب 60 عام في البحث جمعت خلالها مقتنيات المتحف من أثواب عربية ومنسوجات أصلية وأدوات منزلية واكسسورات. تُقدم قعوار خبرتها لتوجيه وإرشاد الباحثين والباحثات في ذات المجال، كما قامت بنشر العديد من الكتب والمقالات التي تتحدث عن الأثواب في المنطقة، وعرضت تجربتها في كل من الأردن، والبحرين، والكويت، والسعودية، والإمارات العربية، والنرويج، وفرنسا، والدنمارك، وسنغافورة وغيرها.

 

عن القُطبة في كل من الثوب الفلسطيني والأردني:- 

تتنوع أسماء القطب في التطريز، ففي الثوب الفلسطيني تظهر القُطبة المتقاطعة (الكروس X) وقُطبة التحريرة والتي يكون فيها الخيط من الحرير ويتم شبكه مع خيط ذهب أو فضة، وتختلف تفاصيل كل ثوب باختلاف كل منطقة.

أما في الثوب الأردني فتبدو الأثواب أوسع من حيث القصّات ومختلفة جدًا من حيث أشكال القُطب، فنرى “البرمة” بدل “الغُرزة” ونرى “المناجل” و”الرقمة” بكثرة، وهذه الأنواع من القطب -على الرغم من تميزها- إلا أنها غير شائعة حاليًا بكثرة. فالـ”رقمة” على سبيل المثال هي عبارة عن نصف قطبة، ويكون شكلها كمصف الـX.

تتكون الأثواب عادة من قبة وسواعد (أكمام) وجوانب (بنايق) والذيل (خلف الثوب) وكُنّ النساء يقُمن بتطريز كل قطعة على حدى، ويتم جمعها كلها في ثوب عند الانتهاء من التطريز.

 

بعض النماذج من الثوب الفلسطيني:-

أثواب نابلس والجليل : اقتصرت الأثواب على أقمشة الحرير والصايا التي كانت تُجلب من سوريا، ولم تتضمن تطريز، ويرجع ذلك لكونهم فلاحين ومُزارعين وقد شغلهم العمل في الأرض عن التطريز والتزيين.

 

ثوب الخليل (للمناسبات): يُستخدم له الكتان كمادة أساسية، ويكون ثوب المناسبات في الخليل يحتوى على الغرزة الفلاحية ويكون مليء بالتطريز، وتسمّى هذه الطريقة بتطريز الطلس، أي لا يوجد أي فراغات في الثوب. وتزداد قيمة الثوب كل ما كان التطريز فيه أكثر غزارة.

 

 

ثوب عروس رام الله: ما يميز ثوب رام الله الكتان الرومي وصفة المصاري، ويأخذ العمل عليه عادة -كالكثير من الأثواب- من 6 شهور إلى سنتين.

 

   

 

ثوب اللد والرملة : أخذ هذا الثوب غرزة التحريرة وتم استعمالها بأسلوب جديد، فاستعملوا خيوط الحرير من دون ذهب أو فضة، وتم إضافة اللون الأزرق على الثوب وقد يكون السبب التأثر بالمدارس التبشيرية وقتها.

 

ثوب القدس (وقضاها وقُراها): كانت النساء بالقُدس يطلبن القطع من بيت لحم (القبة والسواعد والذيل وغيرها..)، والحرير من سوريا، لتنتج قطعة فريدة من نوعها تجمع بين سوريا وبيت لحم.

 

 

ثوب البدو (بئر السبع والنقب): حيث يختلف حجم الثوب فيكون أكثر طولًا وعرضًا عن بقية الأثواب، ويتضمن اللباس البرقع والشال المُطرز والزنانير الحرير والقطن. ويتميز هذا الثوب بالتفاصيل الكثيرة، كالأزرار والخرز الملون والأصداف واكسسوارات الأطفال (كالخرزة الزرقاء كتميمة لرد للعين) بالإضافة إلى شنتة الكحل الصغيرة.

كانت المرأة البدوية تُلون تطريز ثوبها كل ما تغيّرت حالتها الاجتماعية، فعند زواجها تزين ثوبها بالخيوط الحمراء، وعند وفاة زوجها تفك الخيوط الحمراء وتُطرّز خيوطًا زرقاء مكانها، أما في حال زواجها مرة أخرى فتضيف ألوان جديدة لثوبها، ويستمر هذا التحول مع تحول وتغير ظروف حياتها.

 

 

بعض النماذج من الثوب الأردني:-

أثواب البدو: يميزه الدامر -وهو كالجاكيت- ويكون قصير للسيدات وطويل للرجال، ويحتوى على ثوب مزدوج أو “عُب” ويحتوي على جيبة، ويكون طويل جدًا ويُرفع على الخصر على شكل طبقات باستخدام الحزام، وقد يبدو كأنه عبء على السيدة بالحركة إلا أنه في الحقيقة أداة عملية جدًا تُساعد النساء على حفظ أمتعتهن خلال السفر والترحال. وما يثير الغرابة كذلك هو كونها تتمكن من حمل رضيعها في ثوبها كذلك، من خلال أن ترد كُمها اليمين شالا وترد الشمال لليمين ويكون على درجة من الاتساع لتحمل فيه رضيعها.

أما عن العُصبة تُلف كالتاج على الرأس، وكانت النساء الأكبر عمرًا يرتدين اللون الأسود، والأصغر عمرا يرتدين اللون الأحمر.

 

ثوب معان: ملون ولا يحتوى التطريز، وظهر هذا الثوب نتيجة مكان معان الاستراتيجي على طريق الحجاز وطريق الحرير للحج، حيث كانت معان ملتقى للحجاج وتبادل البضائع من كل مكان، ومن هذه البضائع النوعية كان الحرير السوري الذي صُنع منه الثوب بالإضافة إلى المخدات والمهفات الميزة التي احتوت على تطريز وتم تزينها بالكثير من الاكسسوارات.

 

 

ثوب السلط: ويُعرف بالخَلقة السلطية، وهو من أكثر الأثواب الأردنية المألوفة للنظر الآن، فيمكنك مشاهدته على عدد من النساء في السلط حتى يومنا هذا. تُعتبر الخلقة السلطية أطول ثوب بالعالم حيث يصل طوله لـ315سم، وهو يحتوى كذلك قطع مزدوجة من القماش وجيب (عُب) لحمل الأشياء داخله. يتميز الثوب باللون الأزرق الذي يُصبغ من مادة طبيعية..

 

 

 

ثوب حوران (الشمال): يتميز ثوب الشمال بقُطبة الرقمة التي ذكرناها سابقًا، وهو نوع تطريز شائع ويمكننا رؤيته في عدد من الأثواب حاليًا، تكون قبة ثوب حوران على شكل رقم V، ويكون الصدر واسعًا.

 

النسيج بالأردن: حرفة أردنية منذ ألاف السنين، فكانت المرأة الأردنية تحيك فواصل بيت الشعر والخيام، وتنسج البطانيات التي تُعطي الدفئ لأسرتها في برد الشتاء. ولم تكن تنسجها لكونها ضرورية لتسهيل الحياة على مستوى يومي، بل كانت تُظهر فناً عظيما من خلال الأشكال الهندسية والألوان الفريدة.

 

 

 

تحرير: ضُحى أبو يحيى

 

مراجع إضافية للاستزادة:-

-التطريز الفلسطيني (غرزة الفلاحي التقليدية): وداد قعوار وتانيا تماري ناصر.

-متحف طراز: بيت الثوب العربي (رابط للموقع)