وضع رأفت الورقة على الطاولة، رفعها والده متمعنا باهتمام، وقال: “الرسمة خفيفة، بتحتاج لاختزال وبلاغة أكثر..” أمسك رأفت الورقة وعاد مُسرعاً للمحاولة لمرة إضافية أخرى. كان رسم صغير لقبضة يد تحمل خنجراً مُزينأً بألوان العلم الأردني، وكان الغرض من هذا الرسم هو المشاركة في مسابقة فنون في مدرسته تتحدث عن معركة الكرامة. لم يكن رأفت يعلم بعد بأن أستاذه سيقف أمام رسمته مُتعجباً متجاهلاً محاولاته الأولى في رسم الكاريكاتير وإنتاج عمل فني بطريقة مختلفة عن بقية أقرانه في الصف.

 

مُنطلقًا من تجربة والده في ممارسة الفن التشكيلي، ومُتبنياً رأي والدته بأن الفن “ما بطعمي خبز”، قرر رأفت دراسة هندسة الاتصالات، والإبقاء على الرسم كممارسة جانبية خلال فترة دراسته، مُستعيناً بالمرسم الجامعي كمساحة إبداعية مفتوحة، وبخبرات والده وأصدقائه من الفنانين للتعلم والاستزادة من كل ما يمكن تعلمه. كان لوالده الفنان الأردني أحمد الخطيب كبير الأثر عليه، فما زال يذكر حضوره المعرض الفني الأول في حياته، حين ركب السيارة برفقة والده وبعض الداعمين من العائلة والجيران. قطعت السيارة المسافة من الزرقاء إلى المركز الثقافي الملكي في عمّان، مُحملة ببضع لوحات والكثير من حماس طفل وإعجابه بوالده. وكان ذلك في العام 1993 حين بدأ اهتمامه المُبكر في الفن.

 

الرقابة التي تأخذ أشكالاً مختلفة 

في العام 2009 وفي كلية الحصن الجامعية التابعة لجامعة البلقاء التطبيقية، قام رأفت مع زميلته نور الزعبي بالتجهيز لمعرضهما الأول في فن الكاريكاتير في عمادة شؤون الطلبة. انتقد المعرض البنية التحتية في جامعته، كسوء المرافق العامة وضيق الغرف الصفية، بالإضافة لتسليط الضوء على الواسطة والمحسوبية. لم يوافق عميد شؤون الطلبة في ذلك الوقت، على إقامة المعرض إلا بشرط استثناء بعض الرسومات الساخرة، الأمر الذي رفضه الفنان، وفضل عوضاً عنه إلغاء المعرض بالكامل. لينتهي المعرض بلوحة واحدة معلقة تعتذر من الجمهور وتأسف للاضطرار لإلغاء المعرض.

 كان هذا أول اصطدام حقيقي للفنان مع مفهوم الرقابة. وهي ليست مفهوماً عابراً في عالمه اليوم، بل هي جزء أساسي من ممارسته لفنه. وليست وحدها من تُحدد عمله، فشعوره بالمسؤولية يأتي بالدرجة الأولى، ودافعيته الذاتية للتعبير عمّا يراه ضروري، وما يمليه عليه ضميره من مواضيع. يليه تفاعل الجمهور حين يُساءله وينتقد رسمه حول قضية معينة عن غيرها، الأمر الذي يفرض نوع جديد من المساءلة التي تطلب من الفنان الحذر اتجاهها، ويزداد تأثيرها مع ازدياد شعور الناس بالارتباط والتأثر بما يرسمه فنانهم.

ويرتبط تفاعل الناس السريع مع أعمال الفنان منا، بحضوره على مواقع التواصل الاجتماعي، فبينما هي فرصة لتعزيز التفاعل بين الفنان وجمهوره وتقديم الدعم والمساندة له، تكون أحيانا بوابة للناس لفرض أحكامهم وتوجهاتهم كذلك. كما أن مُحددات عمل الفنان تزداد تعقيدا وتشعباً حين يظهر كل يوم “تريند” جديد قد يؤثر على عملك أو حضورك كفنان، بالإضافة سياسات مواقع التواصل الاجتماعي غير العادلة التي قد تقيد الوصول وتحدد الظهور إن لم يتماشى الفنان مع تصنيفاتها ومعاييرها.

 

احتجاجات الرابع والعلاقة مع السلطة

 في منتصف العام 2018 خرج الآلاف من الشباب الأردني للشارع، ضمن سلسلة مظاهرات واسعة طالت العاصمة والمحافظات، عُرفت باحتجاجات الرابع. قامت الاحتجاجات لسبب رئيسي وهو قانون ضريبة الدخل الجديد، وأسباب أخرى كزيادة أسعار المحروقات والنهج الاقتصادي الذي اعتمدته الحكومات المُتتالية باعتمادها على جيب المواطن لحل جميع أزماتها، وانتهت الأحداث بإقالة هاني الملقي -رئيس الوزراء حينها- وتعيين عمر الرزاز خلفًا له.

 

 كان لرأفت مشاركة فعالة في هذه الاعتصامات، ولم تكن ريشته كفنان بعيدة عنها، فقد تفاعلت مع صوت المتظاهرين برسومات لاقت قبول شعبي وانتشار كبيران، وعززت شعبيته واتصاله بالناس على مواقع التواصل الاجتماعي. ليستمر تفاعله مع الأحداث لاحقا في العام 2020،  حين أصرت الحكومة على عقد الانتخابات النيابية خلال أزمة كورونا، وفي ظل إغلاقات ومنع للتجمعات وقوانين دفاع عديدة فرضتها وخالفتها هي بنفسها. رسم رأفت عدد من الأعمال التي رفضت عقد الانتخابات تحت الظرف الصحي. استدعته المخابرات على إثر إحدى هذه الرسومات. اضطر رأفت مُكرهاً لحذف عدد من الأعمال عن مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي أشعره باستياء كبير وأعاده لإحباط شعره  للمرة الأولى عند إلغاء معرضه الجامعي، وتوقف بسببه -في المرتين- عن الرسم لفترة من الزمن. 

 

 

تركت هذه الحادثة تأثير على عمل رأفت، وبدأت معها علاقة جديدة تتشكل بينه وبين الرقابة، فحين عاد للرسم من جديد اضطر ليرسم أعمال بقدر أقل من الحرية ووقعها بتوقيع خاص يُخبر من خلاله جمهوره بأنه رسم هذا العمل ضمن تضييق يتعرض له.  ومع تجربته هذه ظن رأفت بأنه قد يتمكن من تطوير أسلوب جديد أو العمل بطريقة تعتمد بشكل أكبر على المجاز والرموز مُتساءلا عن جدواها فعلا، فالرقابة الذاتية التي اضطر سابقاً لممارستها على نفسه تفادياً لأي تضييق أمني أثبتت عدم فاعليتها، لتكون النتيجة قراره معاودة الرسم من جديد بأسلوبه المُعتاد، وفي حال تعرضه لأي خطورة بسبب الرسم فهو يُفضل ألا يرسم أبداً. يصف موقفه هذا بقوله: “لم يكن قصدي المشاغبة أبدا.. فالمشاغبة ليست هدف بل هي نتيجة”. استمر الحال على ما هو عليه حتى خروجه من الأردن لأمريكا واستقراره هناك.

 

 

 

بحثًا عن أسلوب أفضل وسقفًا أعلى 

انتقل رأفت قبل ما يقارب الثلاث سنوات إلى أمريكا مُلاحقاً فُرص أفضل في العمل والحياة. ولم يكن طموحه غير المحدود في مجال الفن السبب الرئيسي لسفره، إلا أنه ما زال يقتنص أي فرصة من شأنها تحفيز إبداعه  ودعم مسيرته كفنان. اختلف سقف الحريات بعد انتقاله إلى أميركا بطريقة لا يمكن مقارنتها بالوضع في الأردن، حيث احتمالات التقييد مختلفة، فبالوقت الذي تسمح فيه السلطات والجهات الرسمية هناك بسقف أعلى من الحريات، يحدث التضييق من “لوبيات” ومجموعات تدعم فكر معين أو تناهضه، ومن الممكن أن تُهاجم بأي وقت من أي جماعة تحمل توجهات سياسية أو فكرية لمجرد طرح رأيك فيها أو فكرة عامة حولها. وهي ظروف ما زال الفنان يتكيف معها ويحاول فهمها.

 

 التحدي الأكبر الذي سببه انتقاله لأمريكا هو إمكانية الاستمرار بالتفاعل مع القضايا المحلية في ظل بعده عنها على مستوى الجغرافيا والتوقيت، فما زال يحاول قدر استطاعته التكيف مع هذا الظرف كذلك، والاستمرار في الرسم عن القضايا الأساسية التي لطالما رسم عنها، كالقضية الفلسطينية وحرية التعبير والحراك الشبابي.

بخطوط قوية وثابتة يرسم رأفت رسومات تطال الأحداث العامة والسلطة والفساد وكل ما يشغل الشارع، وكان قد بدأ الرسم بالطرق التقليدية قبل تطوير مهاراته والتوسع باستخدام الأدوات الرقمية. كما تمتلك أعماله روح واحدة وتتشابه في أسلوبها في الوقت الذي تتنوع وتتشعب في مواضيعها، كما تتشابه فيها الشخصيات ذات الدلالة الرمزية الواحدة أحيانا، لكنها تتنوع بتنوع الأحداث أحيانا أخرى.

يؤكد رأفت على أن الفن هو نتيجة نهائية لمجموعة متكاملة من المهارات، فحين تطور طريقة معينة للتفكير بالأحداث وإعادة طرحها بصرياً، يتوجب عليك في ذات الوقت الإبقاء على الرسم بشكل مستمر كشرط أساسي لتمرين يدك، حتى لا تخون الفنان إمكانياته عند رغبته بإنتاج عمل فني معين. فإن وصفة النجاح تتضمن عمل فني جيد على مستوى فكري وبصري وتقني، وتتخطى ذلك لعوامل أخرى كالتوقيت ووجود مفارقة قوية في العمل الفني، بالإضافة إلى العامل الأكثر أهمية وهو ضرورة أن يحمل العمل جانب تعبيري قوي يُعطي صورة أشمل للحدث، بحيث يمكن للناس الشعور بها وفهمها بسهولة وبلا أي تعقيد، حيث لا يفيد الفنان تعقيد عمله وإشباعه بالتفاصيل التي تطلب جهد للفهم والتحليل. يُلخص وجهة نظره ببساطته التي اعتدنا عليها في رسمه ويقول:” الناس بتسميه كاريكاتير سياسي أو اجتماعي أو ساخر.. أنا ما يتعنيلي المسميات، المهم عمل من دون فلسفة وقريب من الناس، هسا مش وقت الفلسفة”.  

تأثر رأفت بالرسام الأمريكي ريتشارد طومسون وباللبناني حبيب حداد وتأمل جرأة الإيطالي ماركو دي أنجيليس وتعلم منه الخروج من دائرة الراحة في اختيار مواضيعه. نُشرت أعماله في العديد من المنصات العربية والدولية، كالحدود والميادين والجزيرة والإندبندنت وكرتون موفمنت الهولندية وغيرها.. كما حصد خلال سنوات عمله القليلة الماضية عدد من الجوائز في كل من الأردن وتركيا والبرازيل ولبنان. ويؤكد على أن الجوائز ليست مهمة لذاتها ولا يجب أن يقع الفنان في فخ رسم أعمال لتتماشى مع موضوع جائزة يرغب في التقدم لها، وإنما هي وسيلة للتعرف على فنانين محترفين والتعريف بفنك لهم أو تقديم اسمك للجمهور ضمن رقعة جغرافية أوسع، كالجائزة الأخيرة التي حصدها، جائزة “محمود كحيل” في لبنان والتي نالها بعد 3 مرات من الترشيح ويعتبرها الجائزة الأكثر أهمية في مسيرته حتى الآن ويصفها بأنها من الجوائز العربية القليلة غير المتحيزة. بعد أن تعذر عليه الحضور شخصياً، استلمت والدته عنه الجائزة في بيروت، لكونها أفضل من يمثله ومن يستحق هذا التكريم.

 

-تحرير: أفنان أبو يحيى

-تم إعداد هذا المقال في ضوء لقاء افتراضي عُقد مع الفنان ضمن واحدة من فعاليات قعدة فن.

 

رأفت الخطيب-فلسطين

 

رأفت الخطيب فلسطين

 

رأفت الخطيب - الأردن

 

رأفت الخطيب-حرية التعبير