لا بد أنك قد مررت مسبقا على إحدى أعمالها، أو استوفقتك ألوانها التي تُخفي وراء جاذبيتها قصصا وقضايا عديدة، عبرت عنها – على الرغم من تعقيدها- ببساطة شديدة فتعبر الفكرة من خلالك ، وتدهشك لتتركك بأسئلة تكاد تكون شخصا مختلفا بعدها.

الحديث هنا عن الفنانة الأردنية “جمان النمري”، المتصلة عميقا بقضايا الواقع والمجتمع، والتي طرحت العديد منها، كالحرية والمرأة والجندرية والطفولة بالإضافة إلى كل من المساحة الخالية والمكان. ولدت جمان في الزرقاء عام 1974م، حيث عاشت حياتها في ذات المدينة قبل أن تنتقل لإربد لدراسة الفنون في جامعة اليرموك عام 1992، وكان لنا هذا الحديث معها.

– في البداية حدثينا عن مرحلة الدراسة؟
درست الفنون الجميلة في جامعة اليرموك، وقد كانت مرحلة مهمة للغاية بالنسبة لي، حيث درست على يد مجموعة اعتبرها من نخبة الفنانين والمعلمين مثل: رافع الناصري، عزيز عمورة وعلي طالب. بعد سنة ونصف من الدراسة تخصصت بالرسم والخزف، وتخرجت عام 1996 بعد تجربة تعلمية غنية.

– كيف كانت بداية مسيرتك المهنية ومرحلة ما بعد التخرج؟
ككل البدايات فإن البداية لم تكن بهذه السهولة، وكانت الصعوبة على مستويين، مستوى تجربة الانتقال من الزرقاء إلى كل من اربد وعمّان، وعلى مستوى البدء بالعمل الحقيقي ما بعد التخرج وفترة لا بد منها من التشتت، خُضت الكثير من التجارب كمعلمة للفن في العديد من المدارس والمعاهد المختلفة لمدة 4 سنوات، وانتهى بي المطاف كمعلمة رسم في المدرسة الأرثوذكسية في عمّان في الفترة ما بين 2002-2009.

 

جمان النمري مرسم

صورة من مرسم الفنانة

 

– كيف تصفي تجربة الوظيفة كفنانة؟ إنتاج الأعمال الفنية من دون تفرغ عمل مرهق، صحيح؟
لم يكن ذلك سهلا أبدا، إلا أني ممتنة لتلك الفترة التي تعرفت فيها على الحياة في عمّان واطلعت على مجتمع الفن والفنانين بصورة أفضل، مما ساعدني على تأسيس نفسي مهنيا والانفراد بمرسمي الخاص كفنانة.
اذكر أني انضممت لرابطة الفنانين التشكيلين في ذلك الوقت أيضا، وقد كان انتسابي لها عاملا مساعدا في الوقت الذي كانت الرابطة نشطة للغاية وذات أسماء مهمة في المجتمع الفني الأردني، وقد ساعدني كثيرا كون هؤلاء الفنانين غاية في الترحيب.

– من الواضح بأنك فعلا قد حظيتي بفرص جيدة جدا في بدايتك؟ هل تجدي بأن الفنانين الجدد الآن يحظون بفرص وتجارب ثرية مماثلة؟
في الحقيقة أجد فعلا بأن الفنانين الشباب اليوم يجدون صعوبة أكبر بالدخول إلى المجتمع الفني، وقد يعود ذلك لأسباب عدة، إلا أنه وفي الوقت ذاته يتحمل الفنان الشاب جزءا من المسؤولية حيث لا يبادر بنفسه بأخذ خطوة للتعلم من خبرات من سبقوه، أو أن يطلب المساعدة والإرشاد مِن مَن هم أكثر منه خبرة في المجال.

 

– هل تذكرين لحظة تحول معينة في بداية مسيرتك؟
نعم، اللحظة التي أدركت فيها الحاجة لوجود مرسمي الخاص، وكانت بنفس اللحظة التي استقريت فيها بوظيفة معلمة رسم في المدرسة الاورثوذكسية، حيث كان قرار حاسم بالنسبة لي بأن ابدأ عملي كمعلمة وأستأجر مرسمي الخاص، والذي سمح لي فيما بعد بالبدء بعقد ورشات الرسم والجرافيك الخاصة كذلك، فطوال فترة عملي كمعلمة، راودتني فكرة ترك الوظيفة والتفرغ التام للفن، إلا أنه لم يكن بالقرار السهل، حيث على المرء أن يجد حلولا بديلة حتى يتمكن من الاستمرار.

– فلنتحدث عن أعمالك، ولنبدأ الحديث بموضوع تتناولينه عادة ويكاد يكون أساسي في عملك.. “الصبار”
بدأت قصة الصبار في أواخر العام 1999 حين تلقيت هدية صبارة صغيرة، لفتني شكلها ببساطة فبدأت باستعمالها كموضوع خلال تدريبي على الجرافبك، وبدأ بالفعل بالتطور والظهور بأشكال ومواضيع مختلفة منذ ذلك الوقت، حيث لم تعد الصبارة بريئة، ووجودها في العمل تخطى مجرد إعجابي بشكلها، فهي الآن مقصودة وباتت تلعب أدوارا مختلفة فيما أنوي التعبير عنه بالعمل، فإذا لم تكن هي الموضوع تكن الشاهد على الموضوع أوالشريك فيه، بل تكاد تكون أنا نفسي أحيانا.

 

 

 

– ما الذي يلهمك كفنانة؟
لطالما كان المكان والمساحة من حولي هما مصدر إلهامي، منذ أن اختليت بمرسمي، كان كل ما حولي في المرسم يُوحي لي، فكنت أُنتج أعمال الجرافيك وبعض الأعمال الفوتوغرافية بالاستلهام من المكان، وكان العمل يتغير ويتطور مع انتقالي من مرسم لآخر.
وقد كنت كثيرا ما اتأمل الضوء والعتمة من حولي في مرسمي، حتى أنّي في بعض أيام انقطاع الكهرباء عن مرسمي، اكتشفت الضوء الطبيعي المنبعث، وكيفية سقوطه على المساحات المعتمة، في هذه اللحظة أدركت أن الضوء الاصطناعي الذي نفتعله قد يُعمينا أحيانا.

 

جمان النمري فنانة أردنية

دارة الفنون – 2006

جمان النمري فنانة عربية

دارة الفنون – 2006

 

– ماذا عن المرأة والطفل في أعمالك؟

في عام 2010 كانت غالبية الأعمال الإنشائية عن المرأة، والتي تُعد قضاياها عديدة ومتشعبة وبالطبع فإن أساس هذه المواضيع هي حياتنا اليومية والتطورات المجتمعية من حولنا، وإحدى هذه هي جرائم الشرف والتي كانت موضوع العمل التركيبي “راحة الروح”، قضيت شهورا طويلة وأنا أصنع هذه الدمى بنفسي بل وأصبحن جزءا من يومي وكأنّهن رفيقاتي وكأنّي أعرفهن جيدا، 150 دمية حرصت من خلالها على أن أعبر عن كل فئات المجتمع من النساء، وأظهرتهن بصورة الملائكة لأنهن لن يحتجن العدل البشري في هذه الدنيا بعد الآن.

 

راحة الروح جمان النمري

العمل التركيبي “راحة الروح” – 2010

 

عمل تركيبي

العمل التركيبي “راحة الروح” – 2010

 

من الأعمال الأخرى التي تحمل هم المرأة وقضاياها هو عمل ” الرحم” الذي يعبر عن التقديس المزيف للأم في المجتمع الذي يدعي قدسية المرأة والأم إلا أن هذا الاحترام والتقدير –في الواقع- لا يتجاوز بضع كلمات وأمثال متداولة. بالإضافة إلى أعمال عديدة أخرى بمواضيع مشابهة كالتنميط المجتمعي والجندرية والحب الزائف وغيرها.

 

الرحم جمان النمري

“الرحم” – 2010

أما الأعمال المرتبطة بالطفولة فأغلبها أعمال تركيبية كذلك، وقد كانت هذه الأعمال هي بمثابة التنفيس عن مشاعر تراكمت مع الأحداث والصراعات العربية التي كانت سببا في انتهاك الطفولة، كعمل “ليلى يا ليلى” و “على أجسادنا” و “روح مهاجرة” بالإضافة إلى مجموعة لوحات “أرواح صغيرة” والتي اعتبرها مؤلمة إلى حد ما ولا تعتبر جمالية بأي شكل.

 

مجموعة من الأعمال التي عبرت عن الطفولة ومصيرها في الصراعات العربية:-

ليلى يا ليلى

العمل التركيبي “ليلى يا ليلى” – 2015 ، والذي يصور أغنية الطفولة الشهيرة وبطلتها ليلى التي فقدت جميع أصدقاءها في الحرب.

 

 

أرواح مهاجرة

العمل التركيبي “أرواح مهاجر” -2018 الذي يمثل جميع أرواح أطفالنا المهاجرة والتي فقدت الدفء والحنان لتلقى مصيرا أكثر أمنا في مكان آخر.

 

العمل التركيبي “الربيع العربي” – 2015

 

– ارتباط مواضيعك بالقضايا المجتمعية مذهل بالفعل، برأيك هل يقوم الفنان مجتمعاتنا العربية بالتعبير عن قضاياه بطريقة توصل رسالته بوضوح للمتلقي؟

لست ضد أن يقوم الفنان بالتعبير بحرية من دون الحاجة للشرح، أو من دون الحاجة للحرص على وصول رسالته، لكن ما لا افهمه حقيقة هو لم يجب على العمل الفني لدى البعض أن يكون مبهما لهذه الدرجة؟ أو ما الغاية من جعل العمل الفني لغزا؟
أنا أحرص على أن تحتوى أعمالي على الغموض لكني أحرص على أن يكون بدافع ما يثير الدهشة، إلا أنها يجب أن تعطي طرف خيط للمتلقي وأن لا أتركه بدوامة من الأسئلة التي تشعره بضايعه خلال العمل.

 

– هل من الصعب أن يوازن الفنان بين هذه الدهشة/الغموض وبين تبسيطه المحتوى للمتلقي؟
بالتاكيد من الأسهل أن أقوم بالعمل بحرية تماما وترك الفهم الكامل للمتلقي، لكني حريصة على أن يتم التبسيط للمتلقي والحفاظ على مفهوم العمل بشكل عام.

شاركت الفنانة جمان النمري بعدد من المعارض الجماعية، وأقامت 6 معارض فردية بالإضافة إلى الإقامات الفنية المتعددة والورش في الأردن وخارجه، وهي الآن مستمرة في دروس الرسم في مرسمها في جبل اللويبدة-عمان.

نترككم مع المزيد من الأعمال:-

 

لوحة جمان النمري    جمان النمري لوحة

أرواح صغيرة – 2014

 

جرافيك جمان النمري حفر وطباعة فن

حفر وطباعة – 2005

 

حفر وطباعة “راحة الورح”-2010

 

حفر وطباعة “راحة الروح”2010

عبرت الفنانة عن وضع المرأة في المجتمع وعدم احترام أبسط حقوقها حكق الاختيار، ارتبط الصبار بالعمل وظهر فيه بتكرار للربط بين حاجة المرأة للحماية والتمكين تماما كهذه النبتة التي تحمي نفسها بنفسها من خلال الشوك الذي يحيط بجسدها. في العمل التالي تظهر رمزية “الثور” والذي يُضاف إلى الصبار في ذات السياق، فهو أيضا ينساق إلى نزاعات وألعاب لا خيار له فيها وينتهي به المطاف ضحية بلا أي سيطرة على اختياره، وقد ظهر للمرة الأولى في الأعمال خلال فترة الإقامة الفنية للفنانة في برشلونة، فيضيف قيمة أخرى للظهوره فكل النساء من مختلف الخلفيات يواجهن ذات الخطر وذات الهيمنة والسيطرة على قراراتهن.

 

حفر وطباعة “راحة الروح” – 2010