في عصرنا الحالي..حيث التجدد والخروج عن المألوف وكسر كل القواعد..هل الفن يحتفظ بما يمثله من جمال الطبيعة واخراج الكنوز المكنونة فيه ؟أم ينصاع لكل المتغيرات ويجسد هو الآخر واقعنا بكل ما فيه من اللاهوية،والألم ،والوحشية، والعدد اللانهائي من الأطياف والأشباح؟
إن الطبيعة مقارنة بالزمن الكامن في التحولات، وفي المتغيرات، تمتلك قوانينها الأكثر إثارة للدهشة، التأمل، والقراءة..بما تحمله من مفاهيم الجلال والجمال.

فإذا كان القرن العشرين، مقارنة بالعشرة آلاف عام الماضية، أكثر صخبا ً، وأكثر استحداثا ً للعنف، والتطرف، إلا انه يبقى غير قادر على زحزحة تلك الأصول البكر لعوامل نشوء الحياة ـ وتطورها العنيد.
فحتى التيارات الراديكالية، تطرفا ً أو تجذرا ً، لم تستطع أن تلغي الأسس والعناصر التي انبثقت منها التجارب الفنية المناهضة، مادامت قائمة على ذات القواعد التي استند إليها الرسام الأول، رسام المغارات: الألوان، الخطوط، المساحات، الملامس ..إلخ لتمثل حقيقة أن الحياة بكل ما تحمله من الغاز، مشفرات، وطرق لا محدودة لا تسمح للتقدم أن ينتهي بكارثة، كالتي حصلت لانقراض الديناصورات، على سبيل المثال. لأن المكان ـ بحد ذاته ـ ليس زمنا ً متجمدا ً، كما قال أرسطو، بل” وعدا ً بحياة اقل صخبا ً، واقل عشوائية”.

ولأن المتلقي العام، في الوطن العربي، محكوم بثقافة الدقائق الست التي يمضيها في القراءة على مدى أيام السنة، أي قراءة نصف صفحة ـ فان إعادة قراءة البديهات، الأكثر عمقا ً وذات التاريخ السحيق، تغدو دافعا ً لحب الحكمة: الفلسفة، أو الحياة بوصفها لغزا ً. لكن الفجوة ـ هنا ـ ستتسع، ولن تردم. فالمتلقي المنشغل، والمشغول، بالصدمات اليومية، وباللا متوقع، من دمار، تشتت، إذلال، يجد أن الحديث عن (الطبيعة) وجمالياتها، ترفا ً، بذخا ً، أو وهما ً أو قطيعة مع الواقع ، ولقد أصبح مبدأ“ لا خيار لنا سوى الإصرار على الجمال”، كاختيار في زمن غدا فيه الاختيار، إشكالية، أو استحالة.

ومع إن (الجمال) شبيه بأي مصطلح أو مفهوم، يتميز بالتنوع، والاختلاف، بل وبالتناقض، إلا أن القصد منه، وسط وطن “ينام الموت في حناياه الخبيئة” يغدو هو التشبث بكل ما يعيد للإرادة ديناميتها، عفويتها، صدقها، براءتها، وقبل هذا كله: حياتها.

الطبيعة: جذور الأم الكبرى
مع أن رواد الفن (الحديث) في التشكيل العالمي ـ قبل أن تتخذ الحداثة مفهومها المتداول في أوربا ـ خرجوا من الطبيعة: تيرنر/ مانيه/ مونيه/ جوجان/ فان كوخ/ سوراه …الخ، كل وفق رؤيته، بمعنى: أسلوبه في رؤيا الحداثة، والابتكار.
فإن جذور (الطبيعة) تذهب عميقا ً في نشأة الرسم، وفي بلورة أبعاده التقنية، والجمالية. والأمر لا يتعلق بالجانب البصري، وما يمثله الضوء فقط ،بل لأن الطبيعة هي اللغز الذي نشأت فيه بذور الخلق، والذي يرجع إلى الآلهة الأم ـ أو الأم الكبرى ـ لدى مختلف الشعوب.
فالطبيعة بواقعيتها تضمنت قدرتها على: التوليد،لذا نجد الانطباعيين ـ رغم تباين تجاربهم قربا ً وبعدا ً عن الانطباعية- عملوا على بناء ذاكرة بصرية تستمد أصولها من المكان ـ والضوء، ضمن واقعيتهم اللاشعورية باستعادة أمان مفقود.

فرغم العنف وماتركه من تفكيك للشعوب والأفراد ،نجد اللاشعور عند الفنان يتجه إلى علاقته مع بيئته، بكل ما تحمله من علامات، رموز، ومؤثرات تمنح الطبيعة خصائصها الأسلوبية، بالاستناد إلى الشخصية، ومكوناتها المعرفية، والثقافية الفنية.
وكما نجد اتساع الأعمال في الوطن العربي التي تتجه لتجسيد الواقعية من مآزق وحروب ونكبات ، فسنجد عندما ننظر للجهة الأخرى أعمالا تمتد جذورها إلى تجسيد الطبيعة لتشعرنا أننا نستعيد كل ما كدنا نفقده من اطمئنان، بل إننا نشعر أننا نحتمي بكل ما يحمله تاريخ الأم ـ الطبيعة ـ من مشاعر كادت تخرب، وتغدو مجهولة عنا، وذلك لأنها أولت الجمال نسقا ً يتجاوز (المحلية) نحو أصول فنية مشتركة لدى الجميع. وهي إشارة أكدتها الدراسات الأسلوبية، على صعيد الأدب، الفلسفات، والفنون، بما لا يسمح للفوضى أن تؤدي إلى اختراع أساليب متماثلة، أو ذات علاقة مباشرة بالمحيط.
لكن هذا لا يمثل إشارة أو دعوة لتجنب تيارات الحداثة ـ وما بعدها ـ بل دعوة لقراءة: الأصول الأعمق، مع المتلقي، وخياله الأبعد، بالدرجة الأولى،لتمنحه تكوينات نحو (الصدق)، الذي لا معنى له، من غير خبرة، موهبة، وأصول فلسفية جمالية لا تسمح للأمل ان يذهب ابعد من انغلاقه.

سقراط ” لا جديد تحت الشمس، التي برهنت، بالنفي، بان الجديد ليس المستحدث، أو المبتكر، لصالح التقدم فحسب، بل (اللا جديد) هو ذلك الذي تتأسس عليه الأصول، لتحافظ عليه”.
ولعلنا نجد أن عددا كبيرا من الفنانين، لا تجمعهم (الحداثة) أو محاكاتها، ولا تجمعهم اختلافاتهم الفكرية، أو الأسلوبية، في حقبة كادت تحول اصلب التقاليد إلى رماد ـ والى عشوائيات ـ والى ما هو ابعد من الصخب واستحداث الفوضى،نجد فيهم ثمة نزعة لا شعورية برهنت إنها قلبت اللا جديد، إلى ضرب من (النشوة) الآمنة، والى إعادة قراءة كل ما تمت قراءته، على مر العصور، وفي شتى مدن العالم.

إن (الجمال)..
لا ينتمي إلى المغامرة، أو للتحديق في المجهول، وإنما في إرساء القواعد ذاتها للتجمعات الحضارية، المتمدنة، منذ عصر الكهوف، حيث الشغف بالمرئيات أكد انه مسار بالغ الثراء في دراسة وتأمل الظواهر، بوصفها تتضمن ما يوحدها، كمشترك حر، ومن غير قيود.
فالواقعية ـ بمعناها المتجدد ـ لا يُستحدث من العدم، عالمها الافتراضي، من اجل الدهشة، والتفرد، بل تؤكد ان الجديد يجعل من (السلام) شرطا ً يذهب ابعد من التأويل، ليس بفعل الإجماع حسب، بل لأن نزعة التحرر جعلت من الجمال رمزا لردم المسافات بين الأصوات المختلفة ،فثمة غنائية سمحت للأصوات النائية ان تتشكل بالموجات اللونية ـ غير المرئية ـ فنجد السيمفونية اللونية لهذا العدد الكبير من الرسامين المناهضين، يفند، المشهد المروع الحاصل في الواقع، في بلدنا، أو في البلدان التي شملها الخراب. تماما مثل ما نجد مايحدث تحت الشمس التي تعيد نسج الطبيعة جماليا ً، بهذا التوحد، المجاور للرؤى الروحية، وقد استبعدت انغلاق السبل، أو المرارات.فنتجول بين لوحاتهم وكأننا نتجول في غابة خالية من المفترسات!
ربما لا معنى لهذا الحكم… لو لم نعد قراءة الدخان، والرماد الذي عمل ـ ومازال ـ يعمل على استبدال الشمس بالظلمات، والأرض بالفراغ، والإنسان بالصفر.

إن الإعلام ـ عامة ـ يتجنب الإعلان عن هذا الشغف بالجمال، في أصوله البكر، والمتجددة أبدا ً، إلا ان النزعة الواقعية للفنانين وحدها تمتلك (جديدها) في دحض مظاهر التطرف، والعنف، لإرساء مسارات تمنح الجديد قدراته المخبأة في اكتشاف نزعة البناء، وليس العكس.
فنجد فنانين تزخر أعمالهم بالمكان ـ الوطن ـ مما يعلن عن رؤيا ترسخ مدى إيمانهم بان ما تم استحداثه من (ألوان)، يمتلك قدرات لا محدودة لاستبعاد الدخان الذي كاد يصبح شبيها ً بظلمات الكهوف، فيخلقون بفرشاتهم ذلك الفردوس المنشود ! فالأنا لم تطغ بنزعتها الاستحواذية، أو إغفالها للنزعة (البدائية) بل عملت على إرساء حتمية ان التنوع وحده يجعل من الجمال حياة لم تخلق فائضة، أو قابلة للتدمير ـ والمحو.

وبقراءة عامة للرسم في الوطن العربي، فان عقود الثلاثينات وصولا ً إلى الخمسينيات، في مصر أو في المغرب العربي، في بلاد الشام أو في العراق، تكون قد عملت استعادة (البصر)، بمعنى، الحفر في الشخصية، كي يأتي الإبداع وقد استوفى أدواته، لا في محاكاة الأساليب السائدة في حداثات العالم، بل تدشينا ً لمسار يبدأ بعادة دراسة الجدلية القائمة بين السماء والأرض. فإذا كانت حداثات أوربا، قد خرجت من (المصنع) ـ معه أو ضده ـ وبتقنيات متقدمة تمتلك تاريخها الطويل في الرسم، فان الفن الشرقي، وفي الوطن العربي تحديدا ً، لديه الكثير الذي يكمل المشهد (العالمي)، بالحفاظ على هويته اللا شعورية، العميقة، الرمزية، والواقعية، بدل أن يبقى مكتويا ً بالفصام، وعقدة تقدم أوربا، بوصفها رائدة للحداثة، والابتكار.
فالتنوع الأسلوبي، هنا، منح (الهوية) بعدا ً مضافا ً لواقعية الرسم الحديث، بالتوحد نحو الداخل، ومعه، وليس الانفصال عنه، أو إغفاله، أو السفر بعيدا ً عنه، لنجد إجابتنا عن السؤال:هل بإمكان الفن ـ وجمالياته ـ العمل على ردم الفجوات، واستئناف الحوار الأعمق بين بناة المجتمعات، وبين من يعمل على هدمها، أو إعادتها إلى الماضي؟

ربما المتلقي ما قبل عصر (كافكا) يدرك لماذا ظهرت تيارات عملت على هدم الفن، المجتمع، والأعراف، للبحث عن عقار آخر لعلل بات من الصعب تلافي ازدهارها،فمع تدشينات الفن الحديث، في الوطن العربي، بعد الحرب العالمية الأولى ..انبثقت ملامح سرعان ما عملت لتشكيل علامات حضارية لم يكن لحضورها ما يذكر. بل ظهرت تجارب فنية سرعان ما دخلت في المهرجانات الدولية، رافدا ً للعقم الذي واجهة حضارة العصر، في عزلتها، انخلاعها، اغترابها، وما واجهته من استلاب يخص حياتها اليومية، كالهواء للتنفس، أو الحصول على الماء الصالح للاستخدام البشري، وليس التعرض لصدمات مروعة، مبنية على استحداث اختلافات لا سبيل لمعالجتها إلا بالمزيد من الدخان، والمزيد من انتهاك حقوق الطفل، المرأة، البيئة، والحياة عامة.
نعترف بان هذه الإشارة لا علاقة لها بأجيال حلمت بإبداعات مغايرة للوضع الذي حول الكثير من المدن إلى متاهات، والى أزقة للموت، حتى كاد الفن أن يكون من الماضي، ولا اثر له، بين المجتمعات، وهي توغل ببناء دولة (الدخان) و (الخراب)، وما بعد الموت.
بث الحياة في الفن..
وكي تستعاد المخبآت الروحية للإنسان ـ ولا اعرف كيف! ـ نضطر للحديث عن أقدم العلامات الفنية، مع اكتشاف النار، والكهف، والأدوات البدائية. تلك الفنون المبكرة بوصفها نشأت للعبور من عصر (الغاب) نحو (المدينة)، بينما نصدم اليوم ليس بموت (الفن) أو موت (الإنسان)، بل بما تحدث عنه اينشتاين نفسه: عصر الحرب بالحجارة وأغصان الأشجار! بعد فشل الجميع بالحفاظ على ما شكل عبقرية الإنسان، عبر آلاف السنين.
ومع إن الخسائر المادية باهظة، ومع إن الخسائر بالأرواح بلا حدود، إلا أن لدى الفنانين ـ أو ما تبقى منهم ـ ما يتمسكون به: العودة إلى الماء، إلى السماء، إلى التراب، بإيجاز: بعث اللا وعي ـ واللا شعور أيضا ً ـ ومنحه لغز الآلهة الأم الكبرى ـ التي كونتها الأزمنة، لصياغة علامات تحتمي بها، كأنها تمارس لغز الطيور وهي تبني أعشاشها بحجم قلوبها، يعمل الفنان ببناء علاماته بحجم أحلامه، وهو يراها تتلاشى أحيانا ً، وفي الغالب، تبقى تحمل نقيض الموت.
“الفن الحقيقي هو الذي يعمل على تنقية الروح من الشوائب والغرائز الحيوانية عن طريق عملية تطهير تصاحبها مشاعر اللذة والانتعاش التي تسمو بالنفس إلى المراتب العليا في البناء الأخلاقي”..أرسطو

المراجع..
– مقتبسات مما كتبه الناقد عادل كامل عن معرض [تضاريس ملونة ـ طبيعة عراقية]
– فلسفة الجمال والفن عند أرسطو