” قدّم رجل مصري من أهل الفن (محمود مختار) تمثال بهذا الاسم “نهضة مصر” إلى معرض الفنيين الفرنسيين، ويدل هذا التمثال على ما لصانعه من مقدرة فنية عظيمة، كما يدل على سمو فكره وجمال تخيله، ولا يجوز الاكتفاء باعتبار هذا التمثال مظهرا بديعا من مظاهر الفن، وإنما هو في الحقيقة الرمز المتوقع لأماني أمة، تريد أن تسترد في العالم ذلك المكان الرفيع الذي يؤهلها له تاريخها المجيد وموقعها الجغرافي…وهذا الذي حاول مختار أن يجعلنا نفهمه” (1).


هذه هي الكلمات التي علق بها محرر “المجلة الحديثة للفنون” بباريس من بين ماكتبته صحف أخرى مثل: “لوفيجاروو” و”إلستراسيون” و”آلتان” تعليقا على أعمال مختار الفنية التي قدمها خلال عمله بمتحف”جريفان” في الفترة مابين 1918-1919م ومشاركته في المعرض الفني العام بتمثال “نهضة مصر”. وهو ما دفع كبار رجال السياسة المصرية للاهتمام بمشروع “مختار” الفني والوقوف بجانبه؛ باعتباره تعبيرا جليا عن وضوح أهداف الأمة في بلوغ غايتها المرجوة من بعث لتراثها القديم من أجل النهوض من عثرة التأخر.

العودة من النهر


يشكل محمود مختار(1891-1934م) واحدا من رواد جيل بعث النهضة المصرية الحديثة في القرن العشرين.ريادة لم تنعقد له إلا بقيمة وأهمية منجزه الإبداعي ، وإسهاماته الفنية التي استطاع من خلالها إعادة وصل الخيط المقطوع بين زمنين؛ الحاضر بكل طموحاته وتطلعاته للمستقبل، والماضي بكل ما فيه من ألق الحضارة وأمجادها التي سجلتها يد الفنان المصري على الصخر والحجر منذ قديم الأزل.


مختار الذي بدأ حياته في ريف مصر قرية “نشا” من أعمال محافظة المنصورة، ثم انتقل بعدها في سنوات صباه وفتوته الأولى إلى القاهرة، حيث التحق بمدرسة الفنون الجميلة التي تم إنشاؤها في عام 1908م تحت رعاية الأمير يوسف كمال (1882-1965م) من أمراء أسرة محمد علي، ومنها سافر مختار إلى باريس في عام 1911م، ليلتحق هناك بمدرسة الفنون الجميلة، ويعيش بين مختلف الاتجاهات الفنية والتشكيلية الكثيرة التي كانت تمور بها باريس في تلك الفترة.

بائعة الجبن


يقول مختار في تقريره الذي قدمه لوزارة المعارف عن الحياة الفنية في مصر:-
” الفن قوة قومية…إنه من المنابع الحية للثروة العامة والرخاء. ليس الفن ترفا وإنما هو ضرورة لكل شعب يقدر القوة المعنوية التي يبعثها في الوطن، إذ يضيف آثارا جديدة إلى ما سبق أن وهبه له ماضيه المجيد”(2)
هكذا كان يرى صائغ الحجر قيمة الفن وقوته، ويرى مهمته العظيمة في ترويض العقول قبل الأحجار؛ بترسيخ مبدأ القوة المعنوية للفنون، وهو المبدأ الذي يتداوله العاملون في القطاعات السياسية اليوم باسم “القوة الناعمة”، ومختار ينسب الفن للشعب لا للصفوة والنخبة.


من هنا جاءت ردود الأفعال الشعبية تجاه أعماله ومنحوتاته وتماثيله التي اتسمت بالشعبية، متجاوبة مع نظرته التي آمن بها؛ وهي أن الفنان مسؤول مسؤولية تامة عن مهمة إنماء الشعور بقيمة الفن والجمال وقدرتهما على تحفيز المجموع الإنساني للأمام.

كاتمة الأسرار


وكانت تجربة الاكتتاب العام لجمع الأموال الخاصة بإقامة تمثال “نهضة مصر” -ثم تماثيل “سعد زغلول” – نموذجا ومثالا شعبيا على مؤازرة الناس من البسطاء وعامة الشعب للفن الذي لمس أوتار قلوبهم و صفحات عقولهم. فيتبرع لهذا الاكتتاب صغار الباعة، العمال وربات البيوت. وتأخذ الأقاليم المصرية على عاتقها مهمة التنافس في جمع التبرعات لإقامة التمثال؛ كل هذا بدافع نهوض الروح الوطنية وقيامها في أعقاب ثورة عام 1919م.

وقد مر مختار خلال حياته الفنية بمراحل مختلفة نذكر منها مرحلة البدايات التي أبدع فيها تماثيله بروح الدارس الأكاديمي للفن فخرجت أعمال ومنحوتات مثل “ابن البلد” و “التسول” وفيها سمات واتجاهات المرحلة الأولى التي يغلب عليها الحس الشعبي الساخر، والاهتمام بالتفاصيل الحياتية من أوضاع وملامح وجه كاريكاتورية. تلتها مرحلة الاحتراف التي بدأت في باريس وقدم من خلالها منحوتات عبرت عن تمثله الفني لما تعلمه من أساليب وطرق فنية غربية، وصهره إياها في بوتقة روحه المصرية الوهاجة؛ فقدم خلالها تماثيل : “خالد بن الوليد” و”عايدة”. وصولا إلى مرحلة النضج التي بدأ فيها يشير إلى قوة فن النحت في المخيلة البصرية المصرية، عبر إرساء خطوط منحوتاته المستقيمة القوية والمركزة في منحوتات ميدانية قادرة على الوصول إلى جموع الناس بمختلف أنواعهم وأذواقهم. وهي المرحلة التي تقدم فيها أسلوبه وتمايزت مدرسته الفنية الخاصة عبر تماثيل “نحو ماء النيل” و”الخماسين” و”ايزيس”.

تمثال نهضة مصر

القيم الجمالية في تمثال “نهضة مصر”:


يعتبر تمثال نهضة مصر الذي بدأت رحلته في عام 1922م بتأسيس لجنة لإقامة التمثال هو دعامة فن مختار، يجسد فيه فلاحة مصرية تقف بجوار أبي الهول. والناظر إلى التمثال من ناحيته الأمامية يبصر في حركة اليد التي تزيح النقاب دفقة حياة نابضة ترفع عن الوجه والعين حجابها، وتمتد تلك النظرة في عيني أبي الهول الذي يحمل نظرة الرغبة في النهوض عبر التطلع للأفق البعيد. وكأن اليقظة التي دبت في هذين الكائنين هي يقظة الأمة كلها. والمتأمل لخطوط التمثال ومجموع أوضاعه سيجد وحدة تشكيلية تتسم بالوضوح، والثبات، والتركيز في اتجاه الفكرة التي يعبر عنها. وتأتي قيمة التمثال كونه أول تمثال تم نحته في العصر الحديث من الجرانيت؛ تعبيرا عن فكرةٍ قوميةٍ تمثل اليقين والإيمان بالفن كمصدر للقوة والحضارة.


المراجع:
(1) بدر الدين أبوغازي، المثال مختار، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ديسمبر2003م، ص34-35.
(2) نفس المرجع السابق، صفحة 43.