لفتني وأنا أقرأ كتاب المعمار الدنماركي ستين أيلر راسموسين: “الإحساس بالعمارة”، حديثه وتفريقه بين مدنٍ وصفها بالصلبة والثقيلة، وأخرى بالمرحة والمليئة بالحركة. فكانت مثاله على المدن المرحة والخفيفة؛ مدينة فنيسيا الإيطالية. حيث يقول بوصفها: “فبينما تقبع تلك المدن الصلبة خلف تحصينات شديدة غير قابلة للنفاذ وأخرى تعتصم خلف قمم الجبال بأسوار هائلة خالية من أي فتحات، فإن المدن الخفيفة والمرحة [فنيسيا نموذجًا] مزدانة ببيوت ذات أقواس جميلة فاتنة متراصة وأُناس سعداء مبتهجين. قصورها ملونة كالرسم مليئة بفتحات النوافذ ذات الأعمدة، أما أماكن التسوق فيها، فإنها ضخمة زاخرة بالحياة تُفتح باتجاه البحر.

[مدينة فينسيا وبسبب ممراتها الحجرية والمائية الضيقة]، يكون للضوء والإحساس باللون قيمتهما الخاصة والمعتبرة فيها، فلضوء الشمس الذي يغمرها والماء الذي ترسو عليه انعكاساتهما المنبعثة من السماء والماء على ألوان أبنيتها الزاهية، فحتى الظلال هي أكبر وأعمق من كونها سوداء بلا معنى، فهي بانعكاساتها تخفف وتعطي ألوان الأبنية ميزتها وغناها”.

صورة لممر مائي في مدينية فينيسيا

هذه الالتفاتة دعتني للتفكير بواقع مدينة (تشبه مدينة فينيسيا)، موقعها في الشرق الأوسط، جنوب العراق تحديدًا حيث مدينة البصرة بنصفها المطل على الخليج العربي، ونصفها الآخر الذي تتخلله أنهار وشطوط فرعية كثيرة تشغل مساحة كبيرة من دروب المدينة. فهي مدينة خفيفة ومرحة، مليئة بالحركة. مدينة مينائية مفتوحة للجميع، حتى الاسم أيضًا يشبه مدينة فنيسيا؛ إذ شاع بين أهالي مدينة البصرة قديمًا على مدينتهم اسم (فنيسيا الشرق) تعبيرًا عن حجم الشبه بين المدينتين.

الغريب وهو ما لفتني لتذكر واقع هذه المدينة، أن كل الظروف والأجواء الطبيعية وغير الطبيعية كانت ولا زالت مهيأة ومتوفرة في مدينة البصرة لصنع مدينة تشبه مدينة فنيسيا، ولكن للأسف هذه المدينة وأقصد بها مدينة البصرة فقدت بريقها بمرور الزمن، ويوما عن آخر تزداد خرابًا، لدرجة أن واقعها اليوم بدأ ينطبق عليه المثل القائل عنها قديما “بعد خراب البصرة!”

صورة لممر مائي في منطقة البصرة القديمة, تظهر حجم الفرق بين المدينتين.

صورة لممر مائي في منطقة البصرة القديمة, تظهر حجم الفرق بين المدينتين.

لمدينة البصرة عمارة ميزت مبانيها عن باقي المدن، توفرت لها منذ القرن السابع عشر تقريبًا بتأثير من الجانب التركي أو الهندي أو كليهما معًا. هذه العمارة التقليدية التي لاتزال بقاياها إلى وقتنا الحاضر رغم التهالك والإهمال الذي طالها. فمن المحزن اليوم أن تمشي في شوارع المدينة لتشاهد عمارتها القديمة خربة، مهدمة، وجديدها مشوهةً لا تمت لهوية المدينة التقليدية بأي شيء، فهي عبارة عن قطع مكعبات ملونة رُكبت تركيبًا على مساحات المدينة وفضاءاتها.

ولذلك؛ وفي بحثه المنشور في كتاب (المكان العراقي، جدل الكتابة والتجربة) يشير المعمار والأكاديمي الدكتور أسعد الأسدي، لدور التقاليد في التأسيس لإنتاج وخلق حضارة إبداعية تشمل كل مجالات الحياة، والعمارة منها. وكيف لهذه التقاليد في البناء والعمارة أن تُستعاد في هيئة مميزة جديدة تمتزج مع روح العصر ومتطلباته. “فالعمارة التقليدية هي مأوى المدينة، حين تجدُ في البحث عن مأوى”. وعليه كان بالإمكان جعل عمارة بيوت الشناشيل؛ هوية المدينة المعمارية والسياق المعماري الذي ينبثق منه جديدها.

صورة لواحد من الشوارع الرئيسية في منطقة البصرة القديمة

منطقة المدرجات الإسبانية في فنيسيا

إن مهمة الحفاظ على المدينة وتجديدها بعمارة لا تتطاول أو تَنْشز عن عمارتها التقليدية، مسؤولية تتحملها الجهات الإدارية ذات العلاقة فيها. فالفضاء العام اليوم ليس كما هو قبل مئتين سنة أو أكثر، فضاء اليوم أكثر تعقيدًا بسبب أعداد السكان المتزايدة فقد أصبح أكثر دمجًا للعلاقات والمصالح، ومن غير المعقول أن يبقى هذا الفضاء (في العمارة تحديدًا) مفتوحًا لكل فرد للتعبير عما يجول في خاطره. لابد من ناظم ومسؤول عن هذا الفضاء يمنع أي إخلال أو تجاوز يطال فضاء المدينة من خلال عمارتها. وعن أهمية هذه الرقابة ودورها الفاعل في الحفاظ على المدينة وإدامتها من الخراب والانهيار، يذكر المعمار راسموسين أن “لجنة مختصة بالواجهات الفنيسية منعت إنشاء بيت كان فرانك لويد رايت قد صممه بسبب عدم انسجامه مع الشخصية العامة للمدينة”

أما في مدينة البصرة، ورغم توفر كل الظروف كما أشرت مسبقًا، غابت ولم تتوفر الإرادة أو تم تغييبها عن قصد، لصنع وإدامة هذه المدينة، والحفاظ على انسجام مبانيها. وما أعنيه بالإرادة هنا هي إرادة المسؤول والمؤسسات المعنية بالتخطيط العمراني والحضري، والأدهى من ذلك كان لتقصير هذه الإرادة في أداء واجبها الرقابي، سببًا رئيسيًا بخراب المدينة وتراجعها عمرانيًا وحضاريًا. (فساد الإرادة) هذا، الناتج: مرة عن قهر السلطات وبطشها والتي توالت على حكم هذا البلد تباعًا حتى يومنا هذا، فمن المؤكد أن هكذا سلطات مشوهة لا تُنتج مسؤولين أسوياء ومؤسسات رصينة معيارها الكفاءة والعمل الجاد. بل تنتج مؤسسات ورجال مهووسين بالعمل الأمني والاستخباري والبوليسي، عن العمل الخدماتي والتنموي. وفي أخرى عن الحروب والصراعات التي ما انفكت تجتاح هذا البلد هي الأخرى، لتشيع معها المصالح الشخصية الضيقة، دون مراعاة الصالح العام والأنظمة والقوانين. كل هذه الأسباب وغيرها الكثير أفقد المدينة كثيرًا من ميزاتها، خاصة في عمارتها وأبنيتها الحضرية.

يظهر من الصورة مدى الانهيار والتآكل الذي طال واجهات مبانيها وعمارتها التقليدية.

إن ما تعانيه المدينة اليوم هو فقدان قديمها وتلاشيه (في مجال العمارة)، مما أنتج خللًا كبيرًا في جديد أبنيتها، فهي تنبثق يوميا من اللاشيء إن صح التعبير فلا توجد هوية جامعة في العمارة تستند إليها هذه الأبنية الجديدة.

من مشاهدتنا ومعايشتنا اليومية مع أبنية وعمارة هذه المدينة، ألا يحفزنا هذا وكل وما تم ذكره للتساؤل: هل تستحق هذه المدينة الضاربة في عمق التاريخ هذا الإهمال والتشوه؟ هل هذا هو طموحنا كمسؤولين ومواطنين في الشكل الذي يجب أن تكون عليه مدينة كمدينة البصرة؟ ماهي نوع العلاقة التي تربطنا بمدينتنا اليوم، هل تربطنا بها علاقة عاطفية أو علاقة كره وخوف؟ ماذا نريد لعمارة المدينة أن تكون؟

يجيب الدكتور أسعد الأسدي عن التساؤل الأخير حيث يقول: “يراد من العمارة الآتية أن تضع يدها على المدينة كاملة، وتبسط نفوذها على أمكنتها وأزقتها، تدجن الصحراء والأنهار والنخيل، فيستحيل النهر في المدينة فضاء للعبور وليس للانقطاع عن الضفة الثانية. حيث يمكن للمدينة أن تسكن إحدى الضفتين، أن تقرأ صورتها في الضفة الثانية، ويمكن لها تبني ما يمكن أن تقرأه في الضفة الثانية. تدخلنا البساتين وتقربنا من النخلات العديدات الباقيات، ومن فيء ظلالها، فتحضر المدينة كيانا متواصلا على ضفتي النهر، تمتلك عندها النهر كله، وهو يمتد نسغا من الحياة والتواصل والمتعة، تعبره جسور رشيقة آمنة، تطل عليه بوداعة تصغي إلى أمواجه، وترقب أضواءه الليلية المتراقصة، فلا يعود النهر مهدورا، ويتحرر الطريق الذي يرافقه من الكثير من الخوف القديم، الذي تأتى من غموض يسكن بعض الأبنية، أبنية ضخمة هائلة، يصعب التقرب منها أو دخولها”.

وإذ كنا قد حصلنا على إجابة من الدكتور الأسدي عن تساؤلا واحدا، من سيجيب عن بقية التساؤلات ويحلها؟ وهل الإجابات وحدها تكفي لتغيير واقع المدينة وتطويرها؟