“في مدرسة من مدارس الأونروا في جبل النصر كان المتوقع مني أن أدرس الرياضيات والعلوم والعربي كجميع الطلبة، إلى أن ظهرت مادة الجغرافيا.. لا لتُنقذ فشلي الأكاديمي أو تمنع تسربي المدرسي والتجول في أروقة المخيم وزقاقه مع رفاقي، بل لتحول دون تعمق الفجوة بيني وبين المدرسة. اكتشف أستاذ الجغرافيا اهتمامي الشديد في رسم الخرائط وبدأ يخبر جميع الأساتذة والزملاء من الطلبة بذلك، عندها فقط بدأت أشعر بقيمة الذهاب للمدرسة، وبدأت أستثمر ذلك سرًا بخباثة بين الكسالى من زملائي فارسم لهم الخرائط (واجباتهم المدرسية) مقابل عشرة قروش.. وأحيانا أخرى تمتد تجارتي الصغيرة لأبعد من ذلك فكنت أجني خمسة وعشرون قرشا من رسم صور دُمية عارية ليتداولها طلبة المدرسة سرا في مراهقتهم.

أصبحت فيما بعد رسام المدرسة في كل المناسبات والاحتفالات، وكنت ألبّي هذه الطلبات بسعادة غامرة، كان الرسم عاملًا أساسيًا في تحديد هويتي وتعزيز مفهومي عن ذاتي في تلك المرحلة، وتأكدت في ذلك العمر الصغير بأن هذا تماما ما أريد أن أقوم به في الحياة.. الرسم هو في الحقيقة ما رتب الأمور في داخلي ووضع كل منها في نصابه الحقيقي.”

هكذا يجيب “هاني علقم” بعفوية عن سؤال البداية، ويضيف:-

“في مرحلة ما قبل التوجيهي (الثانوية) كنت أعلم تماما بأنني لن أخوض هذه التجربة، جلست مع نفسي وقررت بأنّي سأترك الدراسة في الأول ثانوي، أطلعت العائلة على قراري ولم يلق أي ترحيب بالطبع، فعائلتي التي لم تكن مهتمة بالفن بتاتا –بل بالأحرى- لم تكن تفهم معنى أن يكون الإنسان فنانا كانت كأي عائلة لاجئة في ذلك الوقت تشغل بالها لقمة العيش، تحتاج لأن يكون ابنها طبيبا أو مهندسا لتشعر بالرضا أو الأمان ربما.

حاولت العائلة منعي مرارا بطرق عديدة، لكني كنت قد اتخذت قراري مسبقا وتركت المدرسة.”

 

-وبعد تركك للمدرسة؟ هل كان لديك خطة؟

ليس تماما، وجدت نفسي في مكان ما لا أعلم ما يتوجب علي فعله، أنا أحب الرسم ولا أريد شيئا سوى أن أرسم ، ولكن ماذا أفعل الان ؟

التحقت بمدرسة عبدالحميد شرف وهي المدرسة الصناعية في منطقة جبل النزهة، تعلمت النجارة لسنتان، وكانت تجربة ممتعة لكن اهتمامي كان بالرسم أكثر، فانضممت لدارة الفنون ومن بعدها معهد الفنون-وزارة الثقافة ما بين (1994-1996) انبهرت جدا بالمكان وكنت أقضي أغلب ساعات يومي في المرسم، لكن ضغط العائلة كان شديدا مما دفعني للاستقلال التام ومغادرة البيت لهذا اضطررت للبدء بالعمل بشكل جدي أكبر والبحث  عن كيفية  عرض أعمالي وبيعها، ولم يكن بيع الأعمال الفنية بتلك السهولة وقد كنت ساذجا في تسعير الأعمال أو طرق العرض إلا أنه لا خيار آخر لدي سوا التجربة والتعلم الذاتي لأصل إلى ما أريده فقد  كنت صاحب أهداف واضحة.

 

-هل كان الوقت الذي قضيته في معهد الفنون كافيا للتعلم؟

إلى حد ما، التحقت فيما بعد بورشات بدارة الفنون مع الفنان مروان قصاب وكانت تجربة غاية في الأهمية بالنسبة لي، تعلمت منه كيف أرى الأشياء بعين الفنان، ومنذ ذلك الوقت تقريبا وأنا فنان متفرغ، بالإضافة إلى أنّي قضيت ساعات طويلة في مكتبة دارة الفنون لأتعلم أكثر، قرأت العديد من الكتب بنهم شديد، وعملت بجدية كبيرة على نفسي وأعمالي الفنية حتى أن أعمالي باتت تستوقف العديد من الفنانين بشكل إيجابي أحيانا سلبي أحيانا أخرى، وكلاهما كان مفيدا بالنسبة لي.

 

هاني علقم

صورة من مرسم الفنان

 

-كيف تتعامل مع الانتقادات السلبية وآراء الآخرين، لا سيّما في البداية؟

النقد السلبي ممن هم أكثر منك خبرة قد يدفعك للتعلم أو يدفعك للوقوف والدفاع عمّا تؤمن به أحيانا، أذكر أني في إحدى المرات تلقيت انتقادًا شديدًا من فنان ذي خبرة بسبب أمور لم أجدها منطقية، كاستعمالي اللون الأسود مثلا! أو استعمالي اللون الأحمر من دون معرفتي رقمه على أنبوب اللون، كل هذه الأمور غير منطقية بالفن بالنسبة لي، كان من الممكن أن تحبطني كفنان ناشئ لو لم أكن أمتلك رؤية واضحة لما أريد التعبير عنه من خلال فني. ولا يمكنني التغاضي عن البعض ممن أثنى على أعمالي إيجابا كعمّار خماش مثلا والذي كان ثناؤه على عملي بمثابة دفعة إيجابية ودعم مهم بالنسبة لي.

 

-صف لنا تطور أعمالك منذ البداية إلى الآن.

ما كنت  لأصفه تطورا، قد يكون المصطلح تغيّر أكثر مناسبة هنا، فالفن الذي ننتجه يتغير كما نتغير نحن، كما تغيرت أنا على مدى السنوات تغير فني بذات الطريقة، كما تغير شكلي وفكري بتراكم السنين كذلك، لا يعني ذلك تطورا بالضرورة وإنما هي سلسلة من التجارب الشخصية والخبرات والعمل لنصل لنتيجة نهائية حتمية لهذه الخبرات. أحب أن أُشبه الفن في هذا السياق بمساحة معينة تبدأ بفنك ومن ثم تتسع هذه المساحة ، وبهذه الطريقة تتغير المواضيع وتمتد مع الوقت، أي أن ما سأرسمه خلال عشر سنوات قد بدأت به من الآن.

كمُلخص: عملي هو ذاته المرتبط بالمدرسة التعبيرية والمرتبط بالضرورة، بالعواطف والمشاعر الإنسانية، ومن خلال هذه المشاعر بإمكانك أن ترى بوضوح من أين بدأت الأعمال الفنية وربما إلى أين ستؤول.

 

-بمن تتأثر من الفنانين؟

في عصر الانفتاح والسوشال ميديا أحاول قدر المستطاع -على عكس البعض- ألّا أغوص بأعمال غيري من الفنانين لأني آراها فكرة مخيفة أن يتأثر الفنان بما قد يتدخل بفطرته ويفقده علاقته العاطفية والخاصة مع ما ينتج، قد لا يكون ذلك صحيحا بالضرورة للجيمع لكنه صحيح بالنسبة لي؛ حيث أشعر بأنّي لم أُستنفد بعد داخليا وأرغب في البقاء على هذا الحال لأنه لا يجعل مني أحدا سوا “هاني علقم”.

 

-أيدل ذلك على أنك لم تتأثر بأي فنان إطلاقا؟

إذا كان لابد من أني تأثرت بأحد فربما أكون تأثرت بـ”غويا” .. كنت استمتع جدا بالاطلاع على مشاعر الوجوه  والمأسآة التي يرسمها، قد أكون تأثرت أيضا بـ”رامبرانت” بلونه وإحساسه وقد كان من تفضيلاتي الشخصية من خلال اطلاعي ومطالعتي، ومن الجدير بالذكر بأنني لم اتأثر بأعمالهم أو أسلوبهم بشكل مباشر ولكن التأثر كان بكيفية تعامل كل منهما مع المشاعر وأسلوب الطرح، وما يدل على ذلك أن ما ألهماني به لا يظهر أبدا في أعمالي بالتأكيد، بل بما وراء العمل، كرؤية من حولي بحزنه وفرحه من الداخل والخارج وأن لا ترى الشخص بل ترى من خلاله.

 

 

 

-ذكرت مسبقا بأنك ترسم ما تشعر به، كيف تتعامل مع هذه الجزئية بإنتاج عملك؟ متى تنتقل المشاعر لتتجسد كعمل فني؟

أنا متفرغ للفن حاليا، أي أنه لا يشغل تفكيري إلا الفن، أٌلاحظ كل من حولي دوما وأٌدرب نفسي على الملاحظة، انتبه للألوان، للأشياء، للطاقة والإحساس.. تتراكم جميعها في داخلي، لا أسعى بالضرورة إلى إظهارها بل تظهر من خلال عملي في الوقت الذي يحلو لها وفي التوقيت المناسب، وقد اتفاجأ أحيانا ظهور ما اعتقدت أنه لن يظهر أبدا أو لم يعد موجودا.

 

-هلا شاركتنا مثال حتى تتضح الصورة؟

خلال عملي على لوحة “الحضرة” شاركت صورةً للعمل مع أخواتي، وأشارت واحدة منهن إلى أن البورتريهات في العمل يشابهن أبناءهن، ما حصل كان مهم بالنسبة لي بالذات بأن العمل يتحدث عن الحضرة والصوفية لا علاقة له بعائلتي أو الأصح قولا لم أقصد ذلك، لكن أغلب الظن بأن ما أشرن إليه أخواتي كان صحيحا وقد ظهر من دون محاولة واعية أو قصد لكنه قد كشف مرورهم كفكرة متراكمة ظهرت من خلال الشخوص بالعمل.

 

Hani Alqam

لوحة الحضرة التي تحدث عنها الفنان

 

-صف لنا كيف تبدأ عملك؟

ابدأ بالعمل بحرية تامة ومن دون أي أحكام، لا أخطط لأي شيء تقريبا، افتح المجال الواسع للتجربة و ابدأ بالألوان، منها ما يبقى على السطح ومنها ما يتغير باستمرار مع تغير العمل، منذ البداية إلى الآن أعتمد التجربة والفشل والمحاولة من جديد، لم تتغير آلية الرسم كثيرا، وكل مداخلة تحدث في محيطي خلال الرسم يكون لها أثر بالعمل بل وقد يغير مجرى العمل كاملا.

 

-هل ترسم على مستوى يومي؟

لا،لأن الفن والمشاعر ليسا مادة استهلاكية، قُد أصاب بالملل أو ربما الإجهاد إذا رسمت يوميًا. وهنا كذلك يشبه الفن حالة إنسانية أخرى وهي المخاض والحمل، علي أن أمُر بالتجارب والخبرات والمشاعر على مستوى يومي فأعود للفن كملجأ حتى أتمكن من تيسير ولادة هذا العمل الجديد. بالنسبة لي إذا عملت بشكل يومي فستٌمسي جميع أعمالي متشابهة ولن أتمكن من التعبير عن المأساة أوالحب أو الفرح في وقته.

 

-متى ينتهي العمل؟

بعد أن أصل إلى ذلك الشعور الذي يوحدني مع العمل، وأشعر بتلك العلاقة الخاصة معه، بعدها ببساطة إذا شعرت بالرضا فإن العمل ينتهي، وبعد انتهائه اسأل نفسي إلى أي مدى ساعدني هذا العمل باكتشاف نفسي من جديد؟ وكم أحببته أنا؟ وكم أشعر بالرضا الداخلي اتجاهه بمعزل عن العالم.

 

-ألا تٌفكر مطلقا برأي المتلقي للعمل؟

كل فنان يهتم بمحبي فنه، إلا أني مؤمن بأن الفن شخصي للغاية، وهذا يٌخفف عني عبء تقبل الآخرين لأعمالي، أول وآخر ما يهمني هو إذا ما كان هذا العمل ساعدني على التفريغ وكشف ذاتي، وإذا ما كان حقيقي فعلا نابع من داخلي بلا زيف أو إدعاء، لطالما بنيت أعمالي على هذا المبدأ.. ولكل متلقي الحق بأن يعجبه العمل أو لا يعجبه، لا أشعر بأنّي مطالب بشيء، لأني لو شعرت بذلك فسيصبح فني مادة استهلاكية للمجتمع وسأخدم أهداف الآخرين أكثر من خدمة أهدافي كفنان.

 

 

-كيف يرتبط فنك بالمجتمع ؟ وهل تسعى للتعبير عن واقعك؟

أن تكون فنانا يعني أن تكون شفافًا تمامًا وأن تكون منفتحا جدا وبسيطا جدا، بحيث كل من يراك من مجتمعك يرى نفسه فيك، وآخر ما يخطر ببال من يقابلك هو أن تكون فنانا، وفيما يتعلق بالواقع تحديدا فلكل منا واقعه الخاص وعلى الإنسان بشكل عام سواء أكان فنانا أم لا أن يعي واقعه الخاص البسيط ويعيشه ويعبر عنه. أنا أحاول أن أكون دوما على اتصال مع واقعي، فأٌفضل أن أقضي 4 أ 5 ساعات في سوق خضار شعبي أو في كراج لتصليح السيارات على أن أقضيها في متحف، يٌلهمني ميكانيكي السيارات عندما يحدثني عن صعوبات وصراعات الحياة أكثر، تحسسه الجلدي وما يتراكم تحت أظافره مصدر وحي بالنسبة لي تماما كحال الطالب الجامعي المهندم لكل منهما ميزة.

 

-قد أكدت مسبقا على أن أعمالك مرتبطة ارتباط تام بتجاربك الشخصية وواقعك الشخص، شاركنا حدث طرأ مؤخرا في حياتك كان له تأثير قوي في عملك؟

وفاة أخي. خلال فترة 40 يوم قبل وفاته ومرافقته في المستشفى علمت بأني سأدخل بمرحلة سيئة على مستوى التفكير لأني عشت التجربة بالكامل وكانت الكثير من الملفات تدخل عقلي، كنت ارسم خلال هذه الفترة.. رسمت العديد من الأعمال بهدف التفريغ والتشافي من هذه التجربة، لكنّي لم أشارك أي أيا منها بل قمت بإخفاءها لأني لم أرغب بأن أغرق في هذه التجربة، قد لا يكون صحيحا أن أكبتها عنوة داخلي وأعلم أنها قد تعود وتظهر بقوة رغما عني، لكنّي لا أٌفكر بهذا الموضوع كثيرا الآن فالحياة مجموعة من المعارك تخوض كلا منها يوما بيوم.

 

-لنتحدث عن الأعمال الفنية، جميع البورتريهات التي ترسمها تشبهك شكلا.

صحيح، من الطبيعي أن يشبه الفن مُنتجه بشتى الطٌرق، فللإنسان أٌلفة مع وجهه وملامحهه، كما أنني قد شبهت الفن مسبقا بحالة إنسانية وهي الولادة فكما يشبهنا أبناؤنا ويأخذون من جيناتنا، كذلك الفن الذي ننتجه.

 

عمّان

لوحة عمّان

 

“أحب عمان كثيرا بتناقضاتها، واستمتع بالعيش بها لو كان لي فرصة أن أعيش بأي مكان آخر بالعالم لاخترت عمّان.

الأعمال هذه اعتبرها توثيق لعمّان الشرقية التي أحب والتي أعلم بأنها ستتغير في وقت قريب، لذلك عملي هنا يوثق بناياتها القديمة في مناطق عديدة بدأتها في جبل اللويبدة وجبل عمان واستمرت للهاشمي، ماركا، جبل القلعة، الجوفة والأشرفية”

 

 

“مقهى الجامعة العربية مقابل المسجد الحسيني الذي كنت ارتاده في التسعينات، كنت أقضي وقتا طويلا هناك على طاولة تكاد تكون مخصصة لي ارسم فيها سكيتشات عديدة، أغلق هذا المقهى أبوابه فانتقلت لمقهى السينترال في وسط البلد ومقاهي آخرى في المنطقة ذاتها.”

 

لوحة هاني علقم

“وقد رسمت هذا العمل تعبيرًا ضمنيًا عن صراعات الدين وقد كان نتيجة تفكير حول فكرة الحضرة حيث أن في وقتنا الحالي وبين جميع صراعات الأديان يمكن لأي شخص أن يجد الراحة في التصوف سواء كان متدينا أم لا، فإن ما يميز الحضرة أو أي تجمع ديني آخر هو وجود هذه الهالة المميزة للمكان والإيقاع الجسدي الجمعي”